أخبار وتقارير

الثلاثاء - 18 نوفمبر 2025 - الساعة 10:43 ص بتوقيت اليمن ،،،

د. عبدالله عبدالصمد


لن يكون هناك حل حقيقي في اليمن ما دامت جماعة الحوثي تفرض سطوتها بقوة السلاح وتتحكم في القرار السياسي والعسكري داخل الشمال، بينما المجتمع الدولي يتعامل معها تارة كطرف سياسي مشروع، وتارة كجماعة إرهابية خارجة عن القانون. هذا التناقض في المواقف جعل الحديث عن (خارطة طريق للسلام) مجرد وهم سياسي يهدف إلى كسب الوقت، وليس معالجة جوهر الأزمة التي تتلخص في وجود كيان مسلح عابر للحدود يتغذى على الفوضى ويهدد الأمن الإقليمي والدولي في آنٍ واحد.

منذ سنوات، تتعاقب المبادرات الأممية والإقليمية لحل الأزمة اليمنية، لكنها تصطدم دائمًا بجدار صلب اسمه الحوثيون. فهذه الجماعة لا تؤمن بالشراكة السياسية، ولا تعترف بالتعددية، بل تعتبر نفسها وصية على اليمن بأسره باسم (الحق الإلهي) ، ما يجعل أي محاولة للتفاوض معها أشبه بمحاولة إقناع النار بأن تصبح ماءً. ومع ذلك، تستمر الجهود الدبلوماسية في البحث عن (حل وسط) لا وجود له في الواقع، لأن طرفًا يملك السلاح ويحتكر السلطة لا يمكن أن يكون مؤمنًا بالسلام، إلا إذا فُرض عليه توازن ردع حقيقي.

خلال الأيام الماضية، شهدت الساحة الإقليمية حراكًا دبلوماسيًا مكثفًا، تقوده المملكة العربية السعودية بدعم من سلطنة عمان، في إطار ما يُعرف بـ(خارطة الطريق للسلام)، وهي مبادرة تسعى إلى إنهاء الحرب عبر تفاهمات بين الرياض والحوثيين تفضي إلى وقف شامل لإطلاق النار، وترتيبات اقتصادية وإنسانية تمهّد لعملية سياسية شاملة. غير أن الملاحظ أن هذه الجهود تُدار بمعزل عن القوى اليمنية الرئيسية الأخرى، وفي مقدمتها المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يملك شرعية ميدانية وشعبية واسعة، ويدير فعليًا مؤسسات أمنية وعسكرية مستقرة في الجنوب.

تؤكد السعودية في كل مناسبة أنها تؤدي دور الوسيط بين الأطراف اليمنية، لكنها في الواقع تمسك بمفاتيح التفاهم مع الحوثيين، بينما بقي الجنوب خارج دائرة المشاركة الفعلية، رغم أنه الطرف الأكثر استقرارًا وقدرة على فرض الأمن ومحاربة الإرهاب. هذا التهميش المتكرر لقضية الجنوب في مسارات التفاوض يضع علامات استفهام كبيرة حول واقعية أي تسوية تُطبخ في غياب طرف أساسي هو أحد أعمدة المشهد اليمني، بل ومفتاح أي سلام حقيقي في البلاد.

من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل البُعد الدولي للصراع. فالحوثيون لم يعودوا جماعة محلية ذات أهداف داخلية، بل تحوّلوا إلى أداة إيرانية في قلب المعادلة الإقليمية. فقد خرجوا عن نطاق الصراع اليمني إلى استهداف الملاحة الدولية في البحر الأحمر وبحر العرب، وشنّوا هجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ باليستية وصلت إلى عمق إسرائيل. هذا التطور غير المسبوق جعل من الصراع اليمني ملفًا عالميًا يتقاطع مع مصالح كبرى، خصوصًا في ظل تصاعد التوتر بين طهران وتل أبيب.

إسرائيل، التي تلقت ضربات مباشرة من الحوثيين خلال الأشهر الماضية، لم تعد تنظر إليهم كتهديد ثانوي، بل كامتداد مباشر لمحور المقاومة الذي تقوده إيران، ولهذا تسعى بوضوح إلى القضاء على قدراتهم الصاروخية والمسيرة، بالتنسيق غير المعلن مع واشنطن. فبعد أن اخترقت المسيّرات الحوثية أجواء تل أبيب، باتت إسرائيل تعتبر نزع سلاح الجماعة هدفًا استراتيجيًا لا يمكن التهاون فيه، وهو ما يفسر التوجه الأمريكي الأخير تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية ، في خطوة أعادت الأمور إلى المربع الأول، وأغلقت الباب أمام أي محاولة لشرعنتهم سياسيًا من جديد.

ومع اقتراب زيارة ولي العهد السعودي إلى الولايات المتحدة، يكثر الحديث عن مبادرة جديدة لحلحلة الأزمة اليمنية، قد تشمل ضمانات عمانية وتفاهمات حول المرحلة الانتقالية. غير أن العقبة الكبرى تكمن في الموقف الأمريكي والإسرائيلي الرافض لبقاء الحوثيين مسلحين، وهو موقف مبرر من الناحية الأمنية، لأن أي كيان يمتلك هذا الحجم من القوة الصاروخية خارج سيطرة الدولة يشكّل تهديدًا مباشرًا للتجارة العالمية وأمن الممرات البحرية الحيوية. وبالتالي، فإن أي تسوية لا تتضمن نزع سلاح الحوثيين ستكون مجرد هدنة مؤقتة، لا أكثر.

الإمارات وروسيا من جانبهما تطرحان رؤية مختلفة تقوم على ضرورة إشراك جميع الأطراف اليمنية في أي عملية سياسية، بما في ذلك الجنوب والحوثيون والقوى الشمالية الأخرى، تحت إشراف الأمم المتحدة ومن دون شروط مسبقة. فالحل من وجهة نظرهما يجب أن يكون من الداخل اليمني لا من العواصم الإقليمية، لأن أي اتفاق خارجي سيبقى هشًا ما لم يعكس توازن القوى الحقيقي على الأرض. ومع ذلك، فإن هذه الرؤية تصطدم بعقبات واقعية، أبرزها غياب الثقة بين المكونات اليمنية، وتعدد مراكز النفوذ، وتضارب المصالح الإقليمية والدولية في آن واحد.

خارطة الطريق الحالية، كما يتم تسويقها إعلاميًا، تبدو أقرب إلى اتفاق تهدئة مؤقتة يراد منه إدارة الصراع لا إنهاؤه. فالحوثيون لم يبدوا استعدادًا حقيقيًا لتقديم تنازلات جوهرية، ولم يتوقفوا عن استعراض قوتهم العسكرية وإرسال الرسائل النارية ، أما القوى الأخرى، بما فيها المجلس الانتقالي الجنوبي، فما زالت تُستبعد من المفاوضات رغم أنها صاحبة الأرض والقرار في الجنوب. وفي ظل هذا المشهد، من الصعب تصور أن تؤدي مثل هذه المبادرات إلى سلام شامل أو دائم، لأن التوازن المفقود بين الأطراف يجعل أي اتفاق هشًّا بطبيعته.

اليمن اليوم أمام مفترق طرق حاسم: إما أن يُعاد بناء العملية السياسية على أسس شاملة وعادلة تشرك الجميع وتضع نزع السلاح في صدارة الأولويات، أو أن تستمر حالة الدوران في حلقة مفرغة من الهدن المؤقتة التي تنتهي دائمًا بانفجار جديد. السلام الحقيقي لا يمكن أن يُفرض من الخارج، ولا يمكن أن يُبنى على المجاملة أو الخداع السياسي، بل على إدراك واقعي بأن جماعة الحوثي أصبحت عقبة أمام قيام دولة يمنية حديثة، وأن الجنوب لم يعد تابعًا أو ورقة تفاوض، بل شريك أساسي في رسم مستقبل المنطقة.

إن المجتمع الدولي، وفي مقدمته الولايات المتحدة والسعودية، أمام اختبار حقيقي في المرحلة المقبلة. فإما أن يختار التعامل مع الحقائق كما هي، ويواجه جذور الأزمة بشجاعة، وإما أن يستمر في إنتاج خرائط سلام وهمية تُعلن في المؤتمرات وتنهار في الميدان. فاليمن لم يعد يحتمل مزيدًا من التجريب، والجنوب لم يعد يقبل التهميش، والمنطقة برمّتها لن تعرف الاستقرار ما دام السلاح في يد جماعة تتحدث بلغة الحرب وتعيش على استدامتها.

السلام في اليمن لن يتحقق بالشعارات ولا بالمبادرات الشكلية، بل عندما يُسحب السلاح من يد الحوثيين، ويُعترف بحق الجنوب في تقرير مصيره، وما لم يحدث ذلك، فكل خرائط الطريق ستبقى حبرًا على ورق، وكل الحديث عن سلام لن يكون سوى تزييف جديد للواقع.

د.عبدالله عبدالصمد

خارطة سلام على رمال متحركة.. وهم التسوية في ظل سطوة الحوثي
2025-11-16 00:44:20كتب د. عبدالله عبدالصمد