كتابات وآراء


الأحد - 02 نوفمبر 2025 - الساعة 04:54 م

كُتب بواسطة : د. عيدروس نصر - ارشيف الكاتب



تشير تقييمات المنظمات الدولية، ومنها منظمة اليونيسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم) والآسسكوا (منظمة الأمم المتحدة لغرب آسيا) إلى إن التعليم في ظل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي) كان يمثل نموذجاً متقدماً بالمقاونة مع الكثير من البلدان المسماة حينها بـ"النامية"، ومنها البلدان العربية المجاورة، وفي بعض تقاريرها تشير منظمة (الآسسكوا) إلى أن اليمن الديمقراطية هي أول دولة عربية تراجعت فيها نسبة الأمية إلى 2% من مجموع السكان.

وتشير المعطيات إلى أن الشهادات التعليمية الصادرة من الجمهورية كانت تقبل دونما حاجة إلى التدقيق أو إجراء أية اختبارات لحامليها المتقدمين للعمل في معظم البلدان العربية، بما في ذلك البلدان التي لم تكن على وفاق سياسي مع النظام الحاكم حينها في البلاد .

ليس في الأمر مبالغات أو ادعاءات أو مباهاة أو بكاء على اللبن المسكوب، لكنها حقيقة تاريخية ينبغي التعلم منها لمن شاء أن يتعلم، صديقاً كان أم خصماً لنظام الحكم في اليمن الديمقراطية حينها.
واليوم يتساءل تلاميذ ومعلمو تلك المرحلة: أين كنا، وكيف صرنا وما الأسباب؟

* * *

تقوم العملية التعليمية، والتربوية على عدد من المقومات، أهمها ثلاثة، هي المعلم، والتلميذ، والمادة التعليمية ووسائلها، ويتحدث البعض عن البيئة التعليمية، والأخيرتان يكمن جمعهما تحت مسمى واحد فالمادة التعليمية ترتبط بالكتاب المدرسي والمبنى المدرسي والوسائل المرافقة، بدءاً بالطبشورة والقلم ولوحة الكتابة وانتهاء بالمختبر والمادة الكيماوية أو الفيزيائية والنباتية وغيرها وبقية وسائل الإيضاح، وبغياب واحدٍ من هذه المكونات أو ضعفه تفتقد العملية التعليمية لفاعليتها وقد تكون المحصلة قريبةً من الصفر إن لم تكن صفراً.

* * *

العمل في الميدان التربوي والتعليمي، عملٌ نبيلٌ في مهنةٍ سامةٍ، عملٌ لا يقوم به إلا إنسان يتميز بالقدرة والكفاءة والمهارة والسمو الأخلاقي والضمير الإنساني، ولذلك قال الشاعر العربي:

قم للمعلم وفِهِ التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا

لأن العامل فيها يستهدف من بين ما يستهدف: توطين المعرفة؛ تأصيل القيم؛ وتكوين المهارات، وغير ذلك، ومن أجل أن ينجح في هذه الرسالة، أو الرسائل النبيلة والرفيعة القيمة يجب أن يكون قد امتلك هذه المقومات قبل أن ينقلها إلى الآخرين.

كانت مهنة المعلم إلى وقت ليس ببعيد جداً، وأقصد ما قبل 1990م تحظى بتقديرٍ واحترامٍ يقترب من درجة التقديس، وشخصياً ما زلت حتى اللحظة أتذكر معلميَّ الأوائل وأشعر بالرهبة والإجلال لمقاماتهم ومكانتهم المميزة في حياتي، وحينما أقابل أحدهم أشعر بأنني أمام كائنٍ مختلف عن سائر الناس الذين أتعامل معهم نظراً للأثر المترسب في قاع ذاكرتي مما تلقيته منهم من معارف وسلوك وخبرات، رغم كل العمر الذي عشته ورغم عدد من مروا أمامي من تلاميذ أصبح منهم العالم والطبيب والمهندس والأستاذ الأكاديمي والوزير والقائد العسكري والأمني والحقوقي، أقول هذا لأن بعض هؤلاء المعلمين قد خلق عندي صورة المثل الأعلى الذي جعلني أتطلع إلى اليوم الذي أغدو عند مستواه وأمتلك سجاياه المعرفية والأخلاقية.

وبمرور السنوات واختلاط المعايير والأولويات أمام القائمين على شأن البلاد وتسنم مراكز القيادة من قبل أناس يفتقرون إلى التقدير الكافي لأهمية العلم والمعرفة والكفاءة والقيم الأخلاقية والعلاقات الإنسانية؛ لم يعد المعلم ينال حقه في التقدير والاحترام والمكافأة المادية والمعنوية التي تتناسب وأهمية وخطورة مكانته في بناء الحياة، المفترض أنها جديدة، وهو ما جعل الكثيرين بهربون من العمل في مجال التربية والتعليم، ويبحثون عن مهنة أخرى أكثر دخلاً حتى لو كانت أدنى مقامة وأقل مكانةً واحتراماً، فالمعلم لم يعد يحظى لا بالتقدير المجتمعي ولا بالمكافأة المادية الرسمية (أقصد الدخل شهري الذي يسد حاجته ويميزه عمن سواه) وبالتالي تحولت مهنة المربي والمعلم إلى مهنة طاردة وأصبح ميدان التربية والتعليم ساحة للعبث والخراب والإهمال، وشخصياً أعتبر هذا سياسة رسمية ممنهجة ومتعمدة من قبل الحكام الذين أرادوا أن يضربوا المجتمع الجنوبي في مقتل وقد فعلوا.

* * *

في دولة مثل اليابان، يحصل المعلم على راتب أعلى من راتب الوزير والمدير والقائد العسكري وعضو البرلمان، وفوق هذا يحصل على مزايا اجتماعية لا يحصل عليها أحد من كل هؤلاء، فلديه مثلاً بطاقةٌ تموينية فيها أسعار تشجيعية مخفظة، وبطاقة مجانية لصعود الحافلات والقطارات، مدفوعة الثمن من قبل الدولة، وحينما يصعد الحافلة أو القطار، يقوم له جميع الركاب ليجلس مكان أحدهم، ولديه بطاقة تعريف يعلقها على صدره تختلف في شكلها ولونها عن بطاقات بقية الموظفين والعاملين وبها يعرفه الناس فيقدروه التقدير المميز الذي لا تحظى به بقية الفئات الوظيفية بما في ذلك علية القوم.

هذا المعلم لا يسأل في أوكتوبر متى سيأتي راتب شهر أبريل، لأن راتبه يذهب إلى حسابه البنكي في الثلاثين من كل شهر فلا مدير التربية ولا مدير المدرسة ولا الصراف يستقطع منه جزءًا ليعود مكسور النفس فاقد الثقة بكل من حواليه، ولذلك لا يضطر إلى العمل خارج الدوام كعامل خلطة أو بائع قات أو منادي على الحافلة أو حمالاً في الميناء أو أمام أحد محلات البيع بالجملة.

متى سيتحرر معلمونا من سيل الإهانات التي يتعرضون لها على أيدي ولاة أمر البلاد، ومتى يدرك ولاة الأمر هؤلاء أنهم لولا المعلم ما وصلوا إلى ما هم فيه من مكانة وما يحظون به من عز وثراء مشروع نادراً وغير مشروع في أغلب الأحيان؟