الجمعة - 14 نوفمبر 2025 - الساعة 08:23 م
ملاحظات على مقال الأخ الهيثم بن سبعة اليافعي
المعنون بـ"للاستفادة من دروس التاريخ"
يتداول الناشطون على تطبيق التواصل الاجتماعي WhatsApp (وربما على تطبيقات أخرى للتواصل الاجتماعي) منشوراً تحليلياً، بمضمون أقرب إلى البحث الأكاديمي باسم كاتبه الأخ "الهيثم بن سبعه اليافعي" بعنوان "للاستفادة من دروس وعبر التاريخ".
ويتضمن المنشور مجموعة من الإشارات النظرية إلى معنى علم التاريخ، وتعريف بالتاريخ، ويشدد على مجموعة من النصائح بما يشبه التوصيات، للقيادات السياسية الجنوبية.
بدأ الكاتب حديثه بلغة أكاديمية لا تخلو من التعبيرات العلمية والمنهاجية السليمة والصواب الموضوعي، واقتبس ابن خلدون وتخلل المقال مجموعة من الإشارات إلى أهمية، التزود بالعلم وقراءة التاريخ والاستفادة من عبره ودروسه، وأهمية ان تتحول العلوم إلى أداة في الفعل والممارسة، وإلى اهمية تصحيح المناهج والمقررات الدراسية، وهو ما يجعل مقدمة النص بمجملها من الناحية الشكلية سليمةً لا تبتعد كثيرًا عن البحث الموضوعي المهدف.
غير إن الكاتب من إن دلف إلى معالجة الوقائع والأحداث حتى نسي الموضوعية والعلمية، وتناسى حتمية اقتران الحدث بظرفه الزماني والمكاني وراح يعالج أحداثاً جرت قبل أكثر من نصف قرن ويقيسها بمعايير اليوم لا بمعايير ظروفها التاريخية والزمانية، وتأثرها وتأثيرها بالبيئة السياسية الوطنية والإقليمية-القومية متكئًا على أقوال لبعض الأفراد من الهامشيين الذين لم يسمع بأسماء بعضهم قط وكل ما يميزهم أنهم من أصول شمالية ممن انخرطوا في الحياة السياسية والاجتماعية والمدنية الجنوبية في فترة النهوض والاستقرار، في محاولة لإلصاق تهمة التآمر الشمالي ضد الجنوب وهويته الوطنية وتصوير الأمور على إنها عبارة عن صراع بين الأشرار الشماليين الناشطين في الجنوب، والملائكة الجنوبيين، الذين يجري تقديم قادتهم وسياسييهم من قبل بعض السطحيين وأنصاف المتعلمين على إنهم كانوا عبارة عن مجموعة من الحمقى والسياسيين السُّذَّج الذين بإمكان (شرير) شمالي أن يخدع عشرة أو عشرين منهم كما يشاء فينصاعون منبهرين بهذه (الخديعة الشريرة) ، وكلما أورده الأخ الهيثم على ألسنة من اعتبرهم مصادر معرفته قد قاله معظم الزعماء والقادة الجنوبيين من أكبرهم حتى أصغرهم.
ومن المؤسف أن الكاتب بطريقته هذه قد اقترب في كثير من الأحيان من المفردات التي يستخدمها الدهماء من عامة الناس متناسياً ابن خلدون وتعريفه لعلم التاريخ ومتخليا عن النصائح التي تكرَّم بتوجيهها (أعني الكاتب) إلى القيادة السياسية الوطنية الجنوبية.
ولكي لا أغوص طويلاً في المقدمات العامة أشير إلى الملاحظات الآتية:
١. أغرق الأخ الكريم صاحب المقال في تعريف علم التاريخ، الذي لا يجهله إلا الأميين، لكن ما إن بدأ الاقتراب من إحدى أهم القضايا الجوهرية في مقاله وفي حديث الكثير من الكتاب والإعلاميين والسياسيين الجنوبيين (أي قضية الهوية الجنوبية) حتى ذهب في الحديث عن مؤامرة تعرضت لها من خلال طمس التاريخ الجنوبي" وتزييفه وتحريفه – والحديث للكاتب الهيثم- من قبل عصابات ما كانت تسمى بالجبهة الوطنية وأحزابها الشمالية التي ادّعت أنها على خلاف مع حكام صنعاء ودخلت التنظيم السياسي الجبهة القومية. . إلخ".
وفي هذا السياق يمكن التوقف عند النقاط التالية:
أ. بما إن الأخ الكريم لم يقدِّم تعريفاً واضحاً لمفهوم الهوية ولم يقل للقارئ ما هي الهوية الجنوبية وما مكوناتها وملامحها، ومتى نشأت وكيف تطورت، وأين وصلت مع إن التعريف بها في هذا السياق أهم من التعريف بعلم التاريخ، فيمكنني القول بثقة إنه حتى منتصف الخمسينات لم يكن ممكناً الحديث عن هوية جنوبية متكاملة الملامح ، إذ كان للجنوب أكثر من 23 هوية ، لكن عدن كانت المشتل الذي وُضِعَت فيه أولى بذرات الهوية الجنوبية الواحدة وتشكلت فيه أولى ملامحها عند نشوء النقابات العمالية والتنظيمات المهنية والحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية (الجنوبية)، التي من رحمها ولدت لاحقاً أحزاب وتنظيمات وقوى الثورة الجنوبية التحررية التي قادت النضال الوطني حتى تحقيق الاستقلال وإعلان الدولة الجنوبية الواحدة الموحدة، أما ما قبل ذلك فكان لكل إمارة ومشيخة وسلطنة هويتها الخاصة وداخل بعضها تتبلور ملامح هويات صغرى يصل النزاع بينها والمواجهة حد الاقتتال المسلح والحروب الدائمة لعقودٍ من الزمن لأتفه الأسباب، وقد استمرت هذه الهويات في الوجود بين التعايش والتصارع، حتى بدايات الاضمحلال والتلاشي عند منتصف الستينات، والتواري عن المشهد بخروج الاستعمار وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
ب. ولتعريف الهوية كمفهوم سيسيولوجي – سياسي ومن ثم الهوية الجنوبية، وبحسب علم الاجتماع السياسي فإنها (أي الهوية) تنشأ عندما تتوفر لها المقومات والأسس التالية:
* الموقع الجغرافي المشترك لأصحاب الهوية الواحدة.
* الذاكرة التاريخية والوطنية المشتركة.
* الموروث الثقافي الشعبي الموحد.
* الاقتصاد الواحد والمشترك لأصحاب هذه الهوية.
* منظومة الحقوق والواجبات المشتركة.
ج. وفي الحقيقة إنني لم أكن أرغب في الغوص في الحيث عن الهوية لولا إن هذا الحديث قد غدا موضوع تناول عبثي من قبل الآلاف، ممن يعلمون ومن لا يعلمون، ومن هذا المنطلق تمكن الإشارة إلى إن الجهل بمفهوم الهوية يجعل أصحابه يقولون الكثير من الكلام الذي لا يمت لهذا المفهوم ومعناه السياسي والفلسفي والسيسيولوجي، بصلة، معتقدين بذلك إنهم إنما يدافعون عن الهوية الجنوبية.
فالاعتقاد بأن تسمية الجنوب (العربي)، ( الذي يعتبره البعض معبِّراً عن هويتهم)، باسم جنوب اليمن قد ألغى الهوية، أو حتى إن الهوية الجنوبية تم إلغائها أو شطبها بمجرد قيام ما سمي بـ"الوحدة اليمنية" عام 1990م هو هراء لا صلة له بالعلم والبحث المنهاجي، للأسباب التالية:
أولاً: إن الهوية لا تصنع أو تلغى بإجراءٍ إداري أو بقرار أو اتفاق أو حدث سياسي، مهما كان حجمه وأهميته وخطورته، بل إنها تنبت وتتخلق وتنمو وتتسع وتكبر وتتجذر وتتساما وقد تشيخ وتعجز وتذبل وتضمر وتموت في سياق عملية تاريخية (اقتصادية اجتماعية ثقافية سياسية وإنسانية) طويلة ومعقدة، تشمل تفاعلات وتداخلات وأحياناً مقاومات ومواجهات قد تستغرق عقوداً وربما قروناً من الزمن، وبالتالي فإن الهوية الجنوبية التي شكلت حالة تفاعل واندماج أكثر من 23 هوية من هويات ما قبل الدولة الجنوبية قد بقيت وواصلت ازدهارها وحضورها بعد قيام الدولة الوطنية الجنوبية وما شهده الجنوب من تحولات على مدى ما يقارب ربع قرن، وحتى بعد مايو ١٩٩٠م بل وبعد حرب ١٩٩٤م نفسها ظلت وما تزال الهوية الجنوبية حاضرة في الوعي والوجدان الجنوبيين، وهذا لا ينفي مساعي نظام ٧/٧ الهادفة اجتثاث الهوية الجنوبية من خلال محاولة طمس التاريخ الجنوبي وتشويهه، ومحاولة تفتيت المجتمع الجنوبي وتفكيك تلاحمه، وغير ذلك من المساعي والمحاولات اليائسة والبائسة، لكن هذه المساعي باءت بالفشل لأن الجزء الجوهري من الهوية الجنوبية بقي راسخاً متغلغلاُ في وجدان السواد الأعظم من أبناء الجنوب.
ثانياً: لا أرغب في استعراض أمثلة تجنبا للإطالة لكنني أشير إلى أن دولة صغيرة مثل سويسرا، أو كبيرة مثل روسيا أو الهند أو الصين وغيرها، تنتشر فيها عدة قوميات وانتماءات عرقية ودينية ولغوية وثقافية (كهويات مكتملة الملامح)، لكن وجودها في دولة واحدة لم يلغِ تلك الهويات أو يؤثر عليها سلباً، بل ربما شكل هذا التنوع والتعدد الثقافي والهوياتي في ظل النظام السياسي المستقر والمعبر عن مصالح كل أصحاب الهويات المتعددة مصدر قوة وإثراء للهوية الجامعة لتلك الدول والشعوب.
2. إن الحديث عن الجبهة الوطنية وأحزابها السياسية (كما أسماها الأخ الكريم الهيثم)، وما يقال عن المؤامرة والوعي الزائف يتضمن خلطاً عجيباً ينبئ عن عشوائية وعدم دقة مصادر المعلومة التي اعتمد عليها، واستسهال التعرض للظواهر المعقدة واللجوء إلى التسطيح والابتسار في استعراض الحقائق والوقائع والظواهر، دون الإلمام بمقدماتها وظروفها وتفاصيلها وخلفياتها المعقدة، ونحن يمكن أن نتفهم لو إن هذا الخلط صدر عن ناشط على منصة إكس أو فيس بوك؛ أو أحد المغردين الجهلة، وهو عملياً يصدر كل يوم بل وعشرات المرات في اليوم الواحد، لكن مصدر التعجب أن يأتي هذا الكلام على لسان كاتب ما انفك يتحدث عن أهمية العلم وتحويله إلى أداة في الفعل والممارسة، ولم يتردد عن توجيه النصائح للقيادات السياسية الجنوبية من منطلق الإلمام والمعرفة والحرص، كما أتصور، وليس بدوافع الشطح النظري أو التعالي المعرفي.
وللإيضاح فإن الجبهة الوطنية التي يتحدث عنها أخونا، ومعها الأحزاب ذات المنشأ الشمالي، لم تنشأ قبل الجبهة القومية ولا حتى معها كي تدخل في تنظيم الجبهة القومية الذي نشأ في أغسطس العام 1963م ، بل إن الجبهة الوطنية لم تظهر إلا آخر السبعينات بعد حرب فبراير ١٩٧٩م بين الجمهوريتين، ونزوح الآلاف من أنصار القوى السياسية الوطنية الشمالية المتضررين من حملات القمع والتنكيل التي تلت الانقلاب على الرئيس الحمدي واغتياله عام 1977م وما تلاها من تداعيات، أدت إلى نزوح الآلاف من المعارضين الشماليين من صنعاء إلى عدن، وجاء إعلان حزب الوحدة الشعبية الذي انصهر في الحزب الاشتراكي اليمني، في الجنوب، كفرع للحزب في الشمال في العام ١٩٧٨م فكيف تكون المؤامرة في مطلع أو منتصف الستينات من قبل قوى لم تظهر إلا أواخر السبعينات؟
ثم إن استخدام تعبير الأحزاب " التي ادَّعت أنها على خلاف مع حكام صنعاء" كلام غير دقيق ومهين بالنسبة لمناضلي تلك الأحزاب والقوى الوطنية الشمالية، وفيه تحامل لا مبرر له على قوى وأحزاب قدمت مئات الشهداء في مواجهة قمع نظام صنعاء، منذ الشهيد عبد الرقيب عبد الوهاب مرورا بالدكتور عبد السلام الدميني ومعه العشرات والمئات من الشهداء مفقودي المصير، وليس انتهاءً بالشهيد جار الله عمر الذي ما تزال حملات الاستعداء والتشهير تتعرض له من قبل بعض الكتاب والإعلاميين المتدربين، لا لسبب إلا لأنه شمالي الميلاد، كما إن نشطاء تلك الأحزاب قد ظلوا داخل سجون صنعاء وتعز وحجة وغيرها حتى العام 1990م والبعض منهم ما يزال مجهول المصير حتى اللحظة، وللأسف فإن مفردة "ادَّعت"، وهي تعني التصنع الزائف، ليست لائقة ولا مناسبة لكاتب يريد الاستفادة من دروس التاريخ، لأنها تنطلق من منطلق السخرية من تاريخ هؤلاء واستصغار نضالاتهم والتشكيك بمصداقيتها.
3. إن الحديث عن مؤامرة لطمس الهوية الجنوبية من قبل أي كان هو حديث يخلو من المنطق العلمي ومن الموضوعية البحثية، وفيه سخرية واستهزاء بالقادة السياسيين الجنوبيين المؤسسين الأوائل للحركة الوطنية الجنوبية والدولة الجنوبية الواحدة الموحدة، وبنفس الوقت فإن هذا الحديث يمثل إعفاء للقيادات الجنوبية من الأخطاء الحقيقية، وليست المزيفة، التي رافقت تجربة الدولة الجنوبية، فمن أعلن اسم الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل هم القادة الجنوبيون بزعامة القائد الرئيس قحطان محمد الشعبي ومنظر الجبهة القومية الشهيد المناضل فيصل عبد الطيف الشعبي وزملائهم، ومثلهم فعلت منظمة التحرير التي صار اسمها لاحقا جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل، ومن سمى جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية هم نفس القادة وليس عبد القادر أمين أو أحمد الصوفي، ومن وقع اتفاق القاهرة وبيان طرابلس عن الجنوب ودولته هم الرئيسان سالم ربيع علي وعلي ناصر محمد ومن وقع وثيقة إنشاء المجلس اليمني الأعلى هو الرئيس علي ناصر محمد، ومن وقع اتفاق "الوحدة اليمنية" عام 1989م هو الرئيس علي سالم البيض، وليس أي شخص أو قائد له أصول شمالية ولو منذ مئات السنين، وفي هذا السياق لا بد من التصدي للمقولة (الشارعية) التي يقع ضحية تلقفها بعض السياسيين والأكاديميين الجنوبيين المعتبرين، حينما يتحدثون عن مؤامرة "أصحاب الحجرية" في تسطيح وتبسيط مبتذلين لقضية لها ظروفها واعتباراتها ومعاييرها التاريخية المحلية والإقليمية، المختلفة عن ظروف واعتبارات ومعايير اليوم.
4. ونأتي الآن للاقتباسات والشواهد التي استند عليها الأخ بن سبعة، من كل من عبد القادر أمين وأحمد الصوفي وعبد الرحمن الاهدل الذي لم أسمع عن اسمه إلا هذه المرة.
إن النصوص التي وردت على لسان المناضل النقابي عبد القادر أمين أو على لسان الصحفي أحمد الصوفي، قد وردت على ألسنة عشرات القادة جنوبيي المنشأ، بدءًا بالرؤساء قحطان الشعبي وسالم ربيع علي وعلي ناصر محمد وعلي سالم البيض، مروراً بقادة من الوزن الثقيل أمثال القادة علي عنتر ومحمد صالح مطيع وسالم صالح وصالح مصلح وجاعم صالح وأحمد مساعد وعبد الله البار وعوض الحامد وغيرهم، وانتهاءً بمعظم القيادات الوسطى من عموم محافظات الجنوب، رحم الله من اختارهم إلى جواره وأطال الله أعمار من لا يزال يعيش المرحلة وهمومها وتقلباتها، ولو إن الكاتب كلف نفسه في البحث عن خطاب لأحد هؤلاء القادة بمناسبة ذكرى الاستقلال أو ذكرى ما عُرِفَ باسم الخطوة التصحيحية (في 22 يونيو 1969م) في أي عام من زمن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لوجد نفس الكلام الذي اقتبسه عن هذين الإسمين، وبنفس التفاخر والاعتزاز، فكل حدث هو ابن زمنه وكل تصريح يعبر عن ظروف مرحلة الإدلاء به، وليس كل كلام مؤامرة ولا كل تصريح خديعة.
ويهمني إيضاح بعض المعلومات عن المناضل النقابي عبد القادر أمين المتهم ضمن (المتآمرين على الهوية الجنوبية) وشخصيا لأول مرة أعرف أن له أصول شمالية، فالرجل قد غادر المشهد بعد الإطاحة بالرئيس قحطان الشعبي، في يونيو العام 1969م، ولم يعد إلى الظهور إلا مع العام 1990م وما ورد على لسانه هو حقيقة ظل كل القادة الجنوبيين يفاخرون بها.
وللذين يتباكون على الجنوب العربي (كدولة وهوية أو كاتحاد فيدرالي) أتوجه بالدعوة إلى قراءة ما كتبه الباحثون المتخصصون في التاريخ اليمني الحديث ومنهم البروفيسور محمود السالمي أستاذ التاريخ بجامعة عدن، رئيس مركز عدن للدراسات التاريخية، في كتابه "الجنوب العربي" والذي يشير فيه إلى عرض الحكومة البريطانية تسليم استقلال "الجنوب العربي" لسلطة تحت قيادة المجلس الاتحادي وبنظام جمهوري يرأسه أحد أعضاء المجلس، لكن أعضاء المجلس رفضوا استلام السلطة إلا بمعاهدة حماية جديدة غير محدودة الزمن، وهو ما تمنعت عنه الحكومة البريطانية، وبالتالي فإن رهان حكام الاتحاد على الحماية البريطانية قد خاب، ومما زاد من خيبتهم تنامي الأعمال الفدائية للثورة المسلحة وتمكنها من الهجوم على مراكز ومعسكرات ومؤسسات حكومية مهمة، وهو ما أدى إلى انهيار الاتحاد وطي صفحته (الكتاب المذكور ص 412-415 طبعة دار الوفاق عدن 2010م)، ولو لم تنتصر الثورة وتعلن الجمهورية الجنوبية الموحدة لكان مصير الجنوب قد ذهب في عالم المجهول.
إذن فسقوط مشروع الجنوب العربي لم يكن نتيجة مؤامرة أو خديعة سياسية مدبرة من أحد بل كان نتيجة لفشل مشروع اتحاد الجنوب العربي وانتهاء عمره الافتراضي، وهي عملية موضوعية وحتمية فرضتها المتغيرات العاصفة في موازين القوى وفي التفاعلات التاريخية على صعيد المنطقة والعالم.
أما حول الكاتب أحمد الصوفي، فهو مجرد شخصية هامشية لم يظهر إلا حينما صار مستشارا للرئيس علي عبد الله صالح، ولم يعرفه إلا القليلون من طلاب صوفيا بعد يناير 1986م حينما قطع دراسته في بلغاريا قبل أن يكملها، وعاد للعمل موظفا في الدائرة الإعلامية لمجلس الوزراء، ولم يكن قط في مكتب الأمين العام للحزب الأخ علي سالم البيض، أما إذا كان فعلاً قد قال ما قاله عن حركة 22 يونيو بأنه من بين الذين حولوا اسم جمهورية اليمن الجنوبية إلى اليمن الديمقراطية الشعبية، فتلك لن تكون إلا شطحةً كبيرةً من شطحات أحمد الصوفي الذي أعرفه حق المعرفة، لأن قيام حركة 22 يونيو وتغيير اسم الجمهورية من خلال إجراء دستوري تم الاستفتاء عليه على مستوى الجمهورية، قد جاء حينما كان أحمد الصوفي في روضة الأطفال، وربما لم يكن قد رمى قارورة الرضاعة.
خلاصة القول:
1. الهوية الجنوبية نشأت مع نشوء الحركة الوطنية والمقاومة الجنوبية السلمية والمسلحة ابتداءً بنشوء الحركة النقابية والأحزاب السياسية في عدن وسواها وترسخت بقيام الدولة الجنوبية الموحدة وكل ما قبل ذلك كان عبارة عن أجنة هويات تتوزع على الكيانات الأميرية والسلطانية الجنوبية المتفرقة والمتنازعة.
2. الهوية لا تنشأ بقرار ولا تلغى بمؤامرة أو خديعة لأن نشوءها وتكوينها ونموها صيرورة زمنية قد تمتد لعقود وقرون وتبقى لزمن أطول من أزمنة بقاء الدول.
3. المتغيرات والإجراءات والمواقف السياسية والشعارات والأهداف السياسية لأي مرحلة يجب تقييمها بمعايير تلك المرحلة وليس بمعايير اليوم كما إن أمراً ما في زمنٍ ما قد يبدو صوابا في زمنه، وقد يغدو خطأً في زمنٍ آخر غير زمنه والعكس بالعكس.
4. اليمن والجنوب يمكن تأويلهما على عدة أوجه، فاليمن الجغرافي التاريخي ليس هو اليمن السياسي، والجنوب التاريخي والجغرافي ليس هو جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أو حتى الجنوب العربي.، وهذه قضية يمكن التوقف عندها بتوسع أكبر في سياق آخر.
5. إن ما ورد في هذه الملاحظات من تعليقات حول ثنائية الشمال والجنوب والشماليين والجنوبيي، لا يعني عدم وجود مؤامرات ودساىس ومحاولات ومكائد لقوى وأجهزة وأطراف متنفذة في الجمهورية العربية اليمنية قبل وبعد 22 مايو 1990م بل ومنذ ميلاد الدولة الجنوبية مما يستهدف الانقضاض على الجنوب وهويته وتطلعاته التاريخية، لكن هذا لا تقوم بها الجبهة الوطنية وأحزابها أو المناضلين الأوكتوبريين، الذين شاءت الأقدار أن آباءهم وأجدادهم وربما أجداد أجدادهم ذوو أصول شمالية (وهو أمر مؤسف أننا أصبحنا نتحدث بهذا المستوى المنخفض من التصنيف) بل إن من يقوم به هي أجهزة ومؤسسات وهيئات متخصصة لديها خططها وبرامجها وأدواتها التي كانت على الدوام في مركز العدوان على الجنوب وفي مختلف الظروف ومهما كان الطرف المتصدر للحكم في صنعاء.
6. إن ما تضمنته هذه الملاحظات ليست دفاعاً عن أحد ولا إدانةً لأحد ولكنه محاولة لإبراز بعض الحقائق التاريخية التي يجهلها البعض ويتجاهلها البعض الآخر لغرض الهروب من التحليل الموضوعي والمعقد والمضني الذي يتطلب التفتيش والبحث في عشرات وربما مئات المراجع والمصادر من أجل الوصول إلى الحقيقة أو الاقتراب منها.
7. إن تجربة الدولة الجنوبية (1967-1990م) ليست حالة ملائكية خالية من العيوب التي تخللت مسيرتها منذ انطلاق الثورة في العام 1963م حتى العام 1990م لكنها لم تكن من القبح والسوء على النحو الذي يقدمها به أصحاب الحسابات التاريخية معها ومع سياساتها أو الإعلام المعادي لشعب الجنوب وقضيته وتطلعاته المشروعة، لكن التحليل والتقييم الموضوعيين لهذه التجربة يستدعيان التجرد من الرغبات والعواطف والتحاملات والميول والتحيز والتذمر، من أجل اكتشاف ما رافق هذه التجربة من تحولات وإنجازات مهمة، وما تخللها من عيوب وأخطاء وشطحات، ما كان منها بحسن نية وما جاء بغيرها.
مع كل التقدير والاحترام للأخ الهيثم بن سبعه اليافعي لاجتهاده المبدع.
والله ولي التوفيق