أخبار وتقارير

الأحد - 21 ديسمبر 2025 - الساعة 12:11 م بتوقيت اليمن ،،،

د. ياسر اليافعي


اعترف أنني من أكثر المتابعين إعجابًا بكتابات الأستاذ عبدالرحمن الراشد. منذ سنوات وأنا أقرأ مقالاته بانتظام، وأنتظرها لما فيها من تحليل عميق وتنوير مهم تجاه ما يعصف بالمنطقة وإيمانًا بقيمتها المهنية وقدرتها على تبسيط التعقيدات للقارئ العربي.

لكنني فوجئت بمقاله الأخير عن الجنوب والمجلس الانتقالي. لم تكن المفاجأة في اختلاف الرأي فحسب؛ فالاختلاف طبيعي، بل ضروري. المفاجأة أن المقال بدا خارج “هوية الراشد” التي عرفناها : أقل تماسًا مع حقائق الميدان، وأكثر اقترابًا من سرديات جاهزة تُصاغ هذه الأيام ضمن موجة ضغط إعلامي وسياسي تستهدف المجلس الانتقالي وتقدّم الجنوب بوصفه “مشكلة” لا بوصفه “حلًا”. لذلك شعرت أن المقال لم يُكتب من قناعة تحليلية كاملة بقدر ما جاء كاستجابة لبيئة ضغط، وكأن الفكرة قُدّمت مسبقًا ثم طُلب إخراجها بأسلوب الكاتب.

ومن هنا، يصبح من حقنا ومن واجبنا أيضًا أن نردّ بهدوء سياسي، لأن جوهر المسألة ليس مقالًا عابرًا، بل محاولة إعادة تعريف قضية شعب، وتقديمها كأنها رهينة “حتمية الجغرافيا” لا كحق سياسي تقرره الإرادة الشعبية.

إرادة الجنوب تصنع السياسة… لا “حتمية الجغرافيا”

في كل مرة يُراد لليمن أن يُقرأ من نافذة واحدة، تظهر مقولة “الحتمية الجغرافية” كأنها القانون الأعلى الذي يلغي إرادة الشعوب ويختزل مستقبلها في خطوط الحدود وتأثيرات الجوار . والحقيقة أن الجغرافيا تضع الإطار، لكنها لا تكتب المصير. الذي يكتب المصير هو الإنسان حين يقرر، والإرادة الشعبية حين تتحول إلى مشروع سياسي قابل للحياة.

الجنوب لم يمضِ ثلاثين عامًا “يدافع عن وحدة بل قاوم كلفة مشروع فاشل، لم يمضِ شعب الجنوب ثلاثين عامًا وهو “يحرس مشروع الوحدة”، بل عاش ثلاثين عامًا وهو يدفع ثمن مشروع سياسي فشل مبكرًا وتحول من شراكة بين دولتين إلى منظومة هيمنة وإقصاء.

فبعد حرب 1994 لم تعد الوحدة إطارًا توافقيًا، بل صارت واقعًا مفروضًا بقوة السلاح، أُعيدت فيه صياغة قواعد الحكم بعقلية المنتصر، وتراجعت فيه الشراكة إلى حدها الأدنى، وتحوّل الجنوب إلى ساحة تهميش سياسي واستنزاف اقتصادي وتجريف للهوية والمؤسسات.

ومن هنا، فإن نضال الجنوبيين لم يكن تمردًا على “دولة مستقرة”، بل كان مقاومة لمسار فشلٍ مزمن ومحاولة لاستعادة حق سياسي طبيعي: أن تكون لهم دولة عادلة تمثلهم وتحمي مصالحهم وتصون قرارهم.

الإرادة أهم من الجغرافيا لأنها تصنع السلام الداخلي

الجغرافيا وحدها لا تمنح دولة شرعية ولا تضمن الاستقرار. الاستقرار تصنعه الشرعية الداخلية: قبول الناس، عقد اجتماعي عادل، ومؤسسات أمنية تُدار لصالح المجتمع لا لصالح شبكات النفوذ. لذلك فإن إرادة الشعوب أهم من الجغرافيا، لأنها هي التي تصوغ السلام الداخلي، وتمنح الدولة القدرة على بناء علاقات متوازنة مع الجوار، بعيدًا عن منطق التوتر والارتهان.

ومن زاوية سياسية أدق: الدول لا تُقاس فقط بمن يؤثر فيها، بل بكيف تدير نفسها. والجنوب اليوم يطرح سؤال إدارة الدولة قبل سؤال شكلها: دولة قادرة على ضبط الأمن، حماية المدنيين، وقطع الطريق أمام التطرف.

السعودية شقيقة كبرى… لكن لا تُختزل السياسة في “الوصاية”

السعودية دولة محورية في الإقليم، وتأثيرها بحكم الجوار والمصالح أمر طبيعي. لكن تحويل هذا التأثير إلى قاعدة تقول إن “لا مشروع ينجح دون رضاها” هو اختزال مخل. العلاقات بين الدول تُبنى على المصالح المتبادلة، لا على نفي إرادة الشعوب. والأهم: أن المشروع الأقرب للسعودية ليس الأكثر صراخًا باسمها، بل الأكثر صدقًا في حماية أمنها.

وهنا يبرز واقع لا يمكن القفز عليه: الجنوب كان، ميدانيًا وسياسيًا، الشريك الأكثر التصاقًا بمواجهة الأخطار التي تهدد المنطقة، وفي مقدمتها الحوثي والإرهاب. لم يكن الجنوب مجرد خطاب سياسي، بل قوة على الأرض؛ نجح في تثبيت الأمن في مساحات واسعة، وخاض معركة قاسية ضد تنظيم القاعدة، وأغلق منافذ كانت تتحول إلى ممرات خطر على الإقليم والملاحة الدولية.

طوال عقود، تلقت قوى يمنية كثيرة دعمًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا، لكنها لم تنتج دولة، ولا انتصارًا، ولا مؤسسات. بل تحولت بعض هذه القوى إلى مراكز تعطيل : تعيش على الأزمة وتستثمر في استمرارها. لذلك فإن النقاش الحقيقي ليس: من يملك الاعتراف؟ بل: من يملك القدرة؟

الجنوب قدّم نموذج “الشرعية الميدانية”: أمن يُدار، مدن تُحمى، وخلايا إرهابية تُلاحق. بينما استمرّت “الشرعية الكلامية” في الدوران داخل خطاب سياسي لا ينتج غير الفشل وتراكم الأزما وتدويرها.

الحوثي: خطر إقليمي… والجنوب كان خط الاشتباك الأول

الحديث عن الحوثي كوكيل لإيران صحيح من حيث الطبيعة الأيديولوجية والارتباط الخارجي، لكن الاستنتاج السياسي الأهم هو التالي: من واجه هذا المشروع في لحظاته الأكثر تمددًا كان الجنوب.
الجنوبيون قاتلوا الحوثي على الأرض، ومنعوه من تثبيت نفوذ في محافظات جنوبية، وواجهوا في الوقت ذاته الإرهاب الذي حاول استغلال الفوضى. هذه ليست نقطة دعائية، بل معيار سياسي: من يقاتل الخطر ويكلف نفسه ثمنه يصبح شريكًا لا يمكن معاملته كطرف هامشي.

والجنوب يكرر اليوم موقفًا واضحًا: إنه يريد دولة تحمي حدوده، وتؤمن الإقليم، وتساند القوى الوطنية لتحرير الشمال من الحوثي. هذا الموقف، إذا قُرئ بواقعية، هو سياسة أمن إقليمي لا مجرد شعار محلي.

المجلس الانتقالي: إطار تمثيلي لإرادة سياسية متراكمة

المجلس الانتقالي ليس “مشروعًا طارئًا”، بل هو تعبير مؤسسي عن مسار سياسي بدأ منذ 2007، وتغذى بتجربة طويلة من الاحتجاج السلمي ثم تحوّل إلى تفويض شعبي متجدد. الاعتصامات والفعاليات والاصطفاف الشعبي ليست تفاصيل ثانوية؛ إنها أدوات قياس “الشرعية الشعبية”، وهي أخطر ما تخشاه القوى الفاشلة التي تتغذى على تسويق وبيع وهم الوحدة اليمنية.

أما الحديث عن “قبول يمني واسع” كشرط لنجاح مشروع الجنوب، فهو يخلط بين أمرين:

قبول الآخرين مهم لبناء سلام مستدام، لكن الحق لا يُعلّق على فيتو القوى التي صنعت الفشل. الجنوب مستعد لحوار وترتيبات وتفاهمات تضمن عدم توليد أزمات، لكنه غير مستعد للعودة إلى صيغة أثبتت أنها تولد الحروب والانهيار.

العلاقة مع الرياض: شراكة مطلوبة…

الانتقالي لا يطرح خصومة مع السعودية، بل يؤكد على شراكة استراتيجية معها. والسؤال الذي يجب أن يُطرح بوضوح: لماذا يُضخّ خطاب التخويف من الانتقالي رغم أنه يرسل تطمينات سياسية متكررة، ورغم أن قوات الجنوب هي التي قامت فعليًا بدور حماية الأرض ومواجهة الإرهاب في مناطق واسعة؟
صناعة الخوف ليست قراءة أمنية بريئة دائمًا؛ أحيانًا تكون أداة ضغط سياسي لإبقاء الجنوب في سقف منخفض، أو لإعادة تدوير قوى فشلت وتبحث عن فرصة جديدة.

حضرموت: تدخل لمنع نقل الفوضى… لا لافتعالها

حضرموت ليست ساحة “استعراض” ولا مغامرة سياسية، بل جبهة أمنية حسّاسة يُراد لها أن تبقى مستقرة، لأن أي انهيار فيها لا يضرب الجنوب وحده، بل يفتح ممرًا واسعًا للفوضى والتهريب والإرهاب.

ما جرى ويجري في حضرموت يمكن فهمه ببساطة: هناك من حاول نقل فوضى الوادي إلى الساحل، وضرب ما تحقق من استقرار، وخلق حالة إنهاك للمجتمع عبر أدوات ضغط مباشرة تمس حياة الناس: تعطيل الكهرباء، إرباك الوقود، وخلق توترات متعمدة تُستخدم كغطاء لإعادة تدوير نفوذ قديم ومسارات تهريب كانت نشطة في مراحل سابقة. في مثل هذه الحالات، يصبح التدخل لمنع الانهيار واجب دولة ومسؤولية أمنية، لا “نزوة قوة” ولا محاولة افتعال أزمة.

وهنا لا يمكن تجاهل الدور السلبي الذي مثّلته المنطقة العسكرية الأولى على مدى سنوات في وادي حضرموت. فبينما كانت القوات الجنوبية تقاتل في الخطوط الأمامية ضد الحوثي والإرهاب، وتتحرك في جبهات واسعة وصلت في مراحل سابقة إلى مشارف مناطق استراتيجية في الساحل الغربي قرب الحديدة، ظلّت قوات المنطقة الأولى وهي قوات شمالية بالأساس ممسكة بالوادي لا بوصفه جبهة تحرير نحو صنعاء، بل بوصفه مساحة نفوذ لحماية مصالح نافذين، والتحكم بالأرض والثروة والمعابر، وإبقاء حضرموت رهينة وضع أمني هش.

وتتحدث تقارير ومتابعات محلية متكررة عن أن مناطق انتشار المنطقة الأولى تحولت إلى بيئة رخوة للتهريب (سلاح، أموال، وممنوعات)، وأن هذه المسارات كانت تخدم بصورة مباشرة أو غير مباشرة اقتصاد الحرب، وتُبقي خطوط إمداد الحوثي مفتوحة، بدل أن تكون تلك القوات جزءًا من معركة كسر هذا المشروع. لذلك فإن إعادة ضبط هذه المساحات، واستعادة القرار الأمني فيها، ليست مسألة محلية ضيقة، بل خطوة ذات أثر إقليمي: تجفيف منافذ التهريب، تقليل قدرة الحوثي على التمويل والتسليح، وحماية المكاسب الأمنية التي تحققت في الجنوب.

الخلاصة: السيطرة الفاعلة على حضرموت، وتأمين الوادي والصحراء، ليست خلافًا سياسيًا على “من يحكم”، بل معركة على وظيفة الأرض: هل تبقى ممرًا للفوضى والتهريب ومصالح الشبكات، أم تتحول إلى ركيزة استقرار تحمي حضرموت والجنوب، وتخدم أمن دول الجوار، وتضعف مشروع الحوثي عمليًا على الأرض؟

الخلاصة: الجنوب مشروع دولة… لا مشروع أزمة

الجنوب اليوم لا يبيع وهمًا ولا يطلب صدقة سياسية. هو يطرح مشروع دولة بمرتكزات واضحة: أمن داخلي، مكافحة تطرف، حماية مدنيين، وشراكة إقليمية قائمة على المصالح.

ومن يقرأ المشهد بواقعية سيدرك أن تجاهل إرادة الجنوب ليس ضمانة للاستقرار، بل وصفة لإطالة الأزمة. لأن الاستقرار لا يولد من كبت الشعوب، بل من الاعتراف بحقوقها وبناء ترتيبات عادلة معها.

الجنوب لا يطلب أن “يُسمح له”، بل يطلب أن يُعترف بحقيقة سياسية قائمة: شعب قرر أن يخرج من دوامة الفشل… ويؤسس شرعية جديدة تصنع الدولة بدل أن تتاجر بها.

#ياسر_اليافعي