كتبه أ. د. عبدالله بن عبدالله عمر
من روائع شعر الأمراء، قصيدة الشاعر الأمير صالح مهدي بن علي العبدلي - رحمه الله - (الهوی قسمة)، هذه القصيدة المودعة في ديوان الشاعر (علی الحسيني سلام) تُشكِّل صورة واقعية عمّا كان يعانيه الشاعر الأمير صالح مهدي - رحمه الله - من الحرمان والبعاد، فهو يبث معاناته في أثناء أبيات القصيدة وفي ظلال كلماتها، وكما قيل عن الشاعر أنّه عاش بعيدًا عن الأضواء لكن شعره سحب إليه الأضواء وجعله خليفة لخاله قائدًا عسكريًا وشاعرًا مبدعًا.
فالناظر إلی شعره ومنها قصيدته (الهوی قسمة) يجد للإبداع موضعًا وللخيال مسكنًا له صولته في القصيدة، وللعاطفة أثرها. فالقصيدة تنطقُ إبداعًا في الألفاظ - وإن كان بعضها عامية- غير إنّ موقعها كان ملائمًا ومتناسقًا مع بقية ألفاظ القصيدة.
قصيدة صيغت أواخر أبياتها علی وزن واحد (مفعول).
ألفاظها تشكَّلت بصورة رائعة؛ لتعطي القصيدة نفسًا طويلًا بوجود المد بالواو ثم إنّها ألفاظ أدت الدور الدلالي كما أراد لها الشاعر.
فمن روعة القصيدة أن جمعت في قافيتها اتحاد الوزن الذي تناغم مع المعنی الوظيفي كونه اسم مفعول و المعنی السياقي في نص القصيدة: مقسوم، مظلوم، مرجوم، محروم، المرسوم إلی آخر القصيدة.
وحين نبحث عن سبب حزن الشاعر نجد أنّ فقدانه لأفراد أسرته واحدًا تلو الآخر أحد الأسباب، وفي نبرة شعره المرتسم بالحزن والأنين والمتوشح بالشكوی من البعد والحرمان تظهر في القصيدة انحسار دمعه حتی قال عنه:
حتی الدمع جافاني
تناسی خطه المرسوم
تاهت الدموع فأضاعت طريقها المرسوم علی الخدين.
نعم القصيدة غزلية مفعمة بمشاعر الحنين تحكي تجربة شاعر مريرة وينظم إليها ما لاقاه الشاعر من فقدان أعز الناس إلی قلبه فاختلطت تجربتان في تجربة واحدة حرمان ممن يحبهم وفقدان لمن يعزهم فاجتمعت المآسي. وقد جرت عادة الشعراء أنّهم يخفون أحزانهم ويودعونها شعرهم وليس بالضرورة أن تكون لكل قصيدة تجربة خاصة فتجربة واحدة أو تجربتان تكفي ليبدع الشاعر و يرسم سيمفونيته في كل ما ينظمه من شعر مع التفنن في تصوير المعاناة.
الأمير الشاعر صالح مهدي العبدلي - رحمه الله - له قصائد كثيرة عذبة المأخذ سلسة التعبير، صارحة بالأنين في ليلٍ طويل.
وفي قصيدته هذه ( الهوی قسمة)التي يبدأها بمطلع أخباري ناقلًا عن الناس قولهم في طبيعة الهوی أنّه قسمة تبدأ القصيدة، بقوله:
يقولوا لي الهوی قسمة
متی كان الهوی مقسوم
لم يرتضِ الأمير صالح مهدي العبدلي - رحمه الله - الشائعة المشهورة أنّ الهوی قسمة، وهو بهذا يخالف خاله القمندان الذي صرّح في قصيدة له.
بأنّ المحبة قد قُسِمت لكن شاعرنا صالح - رحمه الله - يرفض هذه المقولة وحجته ما لاقه في الهوی من متاعب وما حصده من أوجاع: حرمان و بكاء صامت و هجران للنوم و حرمان من الأحلام لطرف واحد من طرفي الحب وسعادة الطرف الآخر فأين القسمة؟!!
وهو يخالف بيتًا آخر :
الحب أصله سعادة إلا عند صالح الأمير - رحمه الله - فالحب عنده شقاء.
في مطلع قصيدته ينقل الخبر علی سبيل الإنكار ويُضمِّنه شكواه فهو يعاني من عدم استقامة أمره في الهوی بل يذهب إلی نفي هذا القول فيبرز نفيه في صورة سؤال مشوب بالتعجب فيقول: متی كان الهوی مقسوم؟ سؤال استفهامي استنكاري، وفيه نفي ما يشاع وتعجيز للقائلين بمقولة الهوی قسمة؛ فهو يطالب من يتبنی تقسيم الهوی بذكر تاريخ بداية تقسيم الهوی؛ ليوصلهم إلی رفض هذه المقولة واستحالة حصولها في الماضي ودليله حاله فهو مظلوم محروم.
ثم يتابع الشاعر نكرانه أنّ الهوی مقسوم فيذكر معادلة غير مقبولة أجبرته علی هذا الموقف، يكشف ذلك ببيان حاله المتعب المظلوم وحال الآخر الذي ينعم بالهوی،فيقول:
يقضي العمر في نعمة
ونا اللي في الهوی مظلوم
عدم العدل في قسمة الهوی تجعل الشاعر ينكر التقسيم من أصله.
والحقيقة أنّ الله- عز و جل- جعل العذاب والشقاء نصيب كل من يعشق شيئًا لا يحل له ولا يستطيع الوصول إليه بالطرق المشروعة، وهذا هو ديدن الشعراء من قيس ليلی وكُثيِّر عزة وجميل بُثينة ( شعراء الحب العذري في العصر الأموي) ممن أفنوا أعمارهم في حب الجمال غير المقدور علی الاحتفاظ به أو الأنس بالقرب منه، بل كان مصدر شقائهم من جهة وسعادتهم في أمل الوصول إلی المرغوب.
وكما قيل: من نفسه بيد غيره مات مُعذَّب.
وفي بيتين من أبيات قصيدته يبدع صالح مهدي -رحمه الله - في تصوير معاناته التي هي معاناة كل عُشَّاق الجمال من غير ميزان ولا تروي ولا مقياس، فيقول:
تركني ناعم المبسم
علی رف الضنا مرجوم
لغير راح يتبسم
ونا من بسمته محروم
استعمل الكناية والاستعارة في قوله: تركني ناعم المبسم علی رف الضنا مرجوم..
فتأمل روعة تركيب صورة من رف، وهذا الرف يمتلكه الضنا ثم إنّ محبوبه جعله علی هذا الرف مرجوم كالمهمل، الرف المضاف إلی شيء وجداني لا يمتلك اسمه ( الضنا) ففي هذا الشطر تصوير للإهمال والنسيان الذي تعرّض له الشاعر حتی صار كالشيء التافه الذي يُترك علی الرف ولا يعبأ به أحد، كالسلعة المرمية علی الرف.
ثم إنّ في إضافة الرف إلی الضنا صورة بيانية رائعة شبّه نفسه بسلعة مرمية لكن سلعة لها إحساس لها معاناة سلعة تبض بالحياة.
ثم يُصور قمة الإهمال الذي تعرّض له، فيقول:
لغيري راح يتبسم
ونا من بسمته محروم
هكذا حال من يعشق ما لا يحل له عشقه، ولا هو بمقدور عليه بالطرق الشرعية.
وكما قيل: من تعلق شيئًا عُذِّب به. إلا المتعلقون بخالقهم- عز وجل - فلا يخسرون لحظة من لحظاتهم ولا تضيع مشاعرهم وهم يسعون في إرضاء خالق المخلوقات ومبدع الجمال فيها، فأعز محبوب يجب أن يسعی الإنسان في تحقيق محبته خالق الجمال ومعطي العباد النعم إنّه الله الجميل.
ويبالغ الشاعر في تشخيص معاناته وحرمانه حتی من أيسر الأشياء التي قد تنفث فيه روح الأمل الابتسامة بل إنّ المصيبة أن تذهب تلك الابتسامة إلی غيره، فيزداد تألمًا وحسرة، فالعذاب له ولفؤاده المجروح، والفرحة لغيره فلا أبقاه من عشق ولا أبقاه من هوی،، وهنا يتجلی التماسك النصي في قصيدة صالح مهدي- رحمه الله - إذ هذا البيت وما بعده من الأبيات تُفسِّر البيت القائل فيه: يقضي العمر في نعمة
و نا اللي في الهوی مظلوم، والمعاناة يشترك فيها مع الشاعر كل محب لمن لا يبادله الحب ويواسيه.
نعم هو مظلوم حتی من الابتسامة عن بُعد.
وتزداد معاناة الشاعر حين يأتي الليل فلا أحلام ولا نوم بل هموم فوق هموم يقول شاعرنا:
حرمني حتی أحلامي
مع بعده هجرني النوم
فالإبداع في هذا البيت ظاهر ويتمثل في أن قدّم حرمانه من الأحلام قبل ذكر النوم الذي بدونه لا تحصل الأحلام.
وتأمل ما يريد الشاعر إيصاله من هذا البيت فالأصل أنّ النوم إذا هجر المرء طبيعي سيُحرم من الأحلام، لكن تقديم الأحلام لتعلقها بما يأمل الشاعر من تحققه بإتيانها لتسعده فقدمها علی ذكر النوم. فطالما لا أحلام إذًا لا نوم وطالما هجره النوم فلا أحلام قاعدة مطردة.
ثم فيه بيان انشغال الشاعر صالح - رحمه الله - بالتفكير وتعلّق فكره بذكر محبيه حتی هجره النوم.
ثم يتطرق الشاعر إلی تصوير معاناته التي تتكرر كل ليلة وكيف أنّ أوهامه تزيده علی همه هموم فيقول:
وطول ليلي وأوهامي
علی همي تزدني هموم
هذا البيت يُصوِّر معاناة كل أبناء الحوطة اليوم، فإنّ تأخر الكهرباء وتأخر الراتب والبحث عن حياة آمنة في ظل تفاقم الأوضاع وتردي المعيشة تجعلهم في هموم بل كل أبناء اليمن طول ليلهم ونهارهم مما يزيدهم همومًا.