كتابات وآراء


الإثنين - 04 أغسطس 2025 - الساعة 07:27 م

كُتب بواسطة : عبدالناصر المودع - ارشيف الكاتب



يعتقد كثيرون أن الارتفاع الكبير والسريع في قيمة العملة المحلية، كما يحدث حاليًا مع الريال اليمني، أمرا إيجابيا ينعكس مباشرة على مستوى المعيشة. على المستوى الشكلي، يبدو هذا الاعتقاد صحيحًا، لكن التحليل العميق يكشف عن مشاكل كبيرة تجعل من هذا الارتفاع ليس فقط مشكلة فورية، بل أيضًا تهديدًا طويل الأمد. وفيما يلي توضيح لذلك:

أولًا، هذا التحسن في قيمة الريال لم يستند إلى معطيات اقتصادية حقيقية؛ فلم يشهد السوق تدفقًا ملحوظًا للعملات الصعبة (كالريال السعودي والدولار الأمريكي). فالبنك المركزي في عدن لم يتلقَّ وديعة نقدية كبيرة قبيل هذا التحسن، ولا توجد حتى وعود بودائع مستقبلية. كما أن الاقتصاد اليمني لم يشهد طفرة مفاجئة في صادراته السلعية أو الخدمية تُفسر تدفقًا للعملات الأجنبية.

وبما أن هذا التحسن لا يستند إلى أسس اقتصادية فعلية، فإن التفسير الأقرب هو أنه ناتج عن صدفة أو سلسلة من الصدف أدت إلى تفاعلات متسلسلة رفعت قيمة الريال بشكل غير طبيعي. ويمكن تصور السيناريو كالآتي: تم ضخ مبلغ كبير من العملة الصعبة في يوم واحد، مما أحدث ارتفاعًا غير معتاد في قيمة الريال، ما دفع المضاربين ومن يحتفظون بالعملة الصعبة إلى بيعها خشية انخفاض قيمتها، الأمر الذي أدى إلى زيادة المعروض من العملة الأجنبية، مقابل انخفاض الطلب عليها، ما تسبب في ارتفاع قيمة الريال أكثر وانخفاض سعر العملات الأجنبية.

وفي ظروف كهذه، تكون السيولة المتداولة في سوق الصرافة محدودة، خصوصًا من جانب الطلب على العملات الصعبة، حيث يُحجم المشترون عن الشراء حتى يتأكدوا من استقرار الأسعار. في المقابل، يشعر المضاربون الملتزمون بدفع التزاماتهم بالريال بالذعر، فيعرضون ما لديهم من عملات صعبة دون أن يجدوا من يشتريها بالسعر المنخفض، مما يؤدي إلى مزيد من الانخفاض. وتستمر هذه الدورة حتى يحدث نوع من الاستقرار النسبي. وهذه الدورة قد تعقبها دورة معاكسة تؤدي إلى ارتفاع سريع في قيمة العملات الأجنبية من جديد.

في اقتصاد هش ومقسّم كاليمن، تكون تذبذبات قيمة العملة المحلية حادة وسريعة، نتيجة غياب بنك مركزي واحد يمتلك أدوات فعالة لتوجيه السوق. وبدلًا من القرارات والسياسات الاقتصادية، تصبح الإشاعات والاجتهادات الشخصية هي المحرك الرئيسي لتحركات العملة.

الارتفاع المفاجئ والسريع في قيمة العملة المحلية يخلّف آثارًا اقتصادية ضارة على شريحة واسعة من الأفراد والشركات. فقد تُعلن العديد من الشركات إفلاسها، ويجد كثير من الأشخاص أنفسهم غارقين في ديون ضخمة يعجزون عن سدادها. ويعود ذلك إلى أن الدورة الاقتصادية في أي بلد تقوم على سلسلة معقدة من المعاملات الآجلة، حيث يبيع المستوردين والمصنعين سلعهم لتجار الجملة بالآجل، وهؤلاء يبيعون الكثير منها لتجار التجزئة بالآجل، الذين بدورهم يبيعون جزء منها للمستهلكين بنفس الآلية.

وفي بيئة غير مستقرة كالتي يعيشها اليمن، يعتمد البائعون بالآجل على أسلوبين لمواجهة انخفاض قيمة العملة: إما تسعير السلع بالعملة الصعبة (الدولرة)، أو رفع الأسعار بشكل دائم تحسبًا لتدهور الريال. ولهذا نجد أن الأسعار ترتفع بنسبة تفوق نسبة ارتفاع العملات الأجنبية.

وبما أن الجزء الأكبر من السوق يعتمد على البيع الآجل، فإن أي تقلب حاد في قيمة العملة يؤدي إلى فوضى وخلل كبير. على سبيل المثال، من عليه التزام بسداد 100 مليون ريال حين كان الدولار يعادل 3,000 ريال (أي ما يعادل 33 ألف دولار)، سيجد نفسه مضطرًا لدفع ما يعادل 50 ألف دولار إذا انخفض سعر الدولار إلى 2,000 ريال، ما يعني زيادة الالتزام بنسبة تقارب الثلث. ورغم أن الواقع أكثر تعقيدًا، إلا أن الأثر النهائي في حالات ارتفاع قيمة الريال بشكل سريع هو ذاته تقريبًا.

وتزداد الأمور سوءًا إذا فُرض على تجار التجزئة تخفيض الأسعار بنسبة تعادل انخفاض قيمة العملات الأجنبية، والتي يتم على أساسها تسعير السلع، إذ يُجبر التاجر على بيع سلعة اشتراها بـ 3,000 ريال بسعر 2,200 ريال مثلا، ما يسبب له خسائر فادحة قد تؤدي إلى إفلاسه. وفي مثل هذه الظروف، تختفي السلع القابلة للتخزين من السوق، وهنا قد توجد سوق سوداء تباع فيها هذه السلع بأكثر سعرها السابق، بينما تُباع السلع سريعة التلف بخسارة أو عبر التحايل على التسعيرة المعتمدة.

ومن النتائج المتوقعة أيضًا، شيوع فوضى في تطبيق التسعيرة، وظهور موجة من الرقابة العشوائية والعقوبات ضد من يُعتبر مخالفًا للأسعار المفروضة. وترافق هذه الإجراءات مظاهر من الفساد، والرشوة، واستغلال النفوذ، وقد يُسجن بعض التجار الصغار، خصوصًا مع تدخل قوات غير رسمية (مليشيات أمر واقع) في تنفيذ هذه السياسات.

من المرجح أن يلي هذا الارتفاع المبالغ فيه في قيمة الريال موجة هبوط حادة، لأن الارتفاع لم يكن نتيجة عوامل اقتصادية حقيقية، بل جاء بفعل صدف. فما إن تبدأ موجة شراء العملات الأجنبية في التحرك، وهي حاليًا شبه متوقفة، حتى تنقلب المعادلة، مما قد يُخفض قيمة الريال إلى مستويات أدنى من السابق، ما لم تُتخذ إجراءات ذكية لتثبيت سعره ضمن هامش معقول.

ويستند هذا التوقع إلى معطيات اقتصادية أساسية تؤكد أن العملة المحلية ستواصل الانخفاض، سواء بشكل سريع أو تدريجي، وأبرز هذه المعطيات:

العجز المزمن في الميزان التجاري، والذي يتجاوز 10 مليارات دولار سنويًا وفق التقديرات المتحفظة؛ إذ لا تتجاوز صادرات اليمن 2 مليار دولار في أحسن الأحوال، بينما تفوق وارداته 12 مليار دولار، أبرزها المشتقات النفطية التي تتجاوز 3 مليارات دولار سنويًا.

العجز الدائم في ميزان المدفوعات، والذي يعتمد على تحويلات المغتربين والمساعدات الخارجية.

اعتماد الحكومة المعترف بها دوليًا على طباعة العملة لتغطية نفقاتها، دون وجود احتياطي كافٍ من النقد الأجنبي.

الانقسام المالي بين سلطتين ونظامي عملة وبنكين مركزيين، وظهور كانتونات مالية مستقلة عن البنك المركزي الرسمي.

وبناءً على ما سبق، فإن التحسن السريع في قيمة الريال لن يؤدي إلى تحسن فعلي في مستويات المعيشة، بل قد يسهم في تعميق ظاهرة "الدولرة" أو "السعودة"، حيث تتزايد الهيمنة التدريجية للريال السعودي بوصفه عملة للتداول، لا سيما في المعاملات الآجلة، وعقود الإيجار، وتسعير السلع المعمرة كالمركبات والعقارات.

وفي ظل هذه الظروف، ينصح من يملك عملات أجنبية أن ببيعها ما لم يكن مضطرًا، إذ لا توجد مؤشرات حقيقية توحي بأن ارتفاع قيمة الريال مستقر أو دائم. وما يجري في السوق هو في الغالب موجة من المضاربات، كثير منها غامض أو مشبوه، وقد تؤدي في النهاية إلى استنزاف مدخرات الناس من العملات الصعبة، خصوصًا غير الملمين بطبيعة المعاملات المالية المعقدة.

في غياب دولة حقيقية تملك سلطة مركزية موحدة تُشرف على كامل الجغرافيا اليمنية، سيظل تدهور العملة الوطنية وتردي مستويات المعيشة هو الوضع الطبيعي والمستمر، وليس الاستثناء.