أخبار وتقارير

الأحد - 11 يونيو 2023 - الساعة 11:31 م بتوقيت اليمن ،،،

د. هيثم الزبيدي


في أكثر من مقدمة لحرب، سعت الولايات المتحدة إلى بناء تحالفات تستبق الحروب نفسها. أميركا قوة عسكرية عظمى تستطيع حشد مئات الآلاف من الجنود، للقتال ولتوفير الدعم اللوجستي.

كان السؤال دائما: بماذا تستفيد واشنطن عندما تسعى لأنْ يكون إلى جانبها في حروبها حلفاء لا يقدمون في العموم أكثر من بضعة آلاف، وفي بعض الأحيان العشرات، من الجنود؟ في كثير من الأحيان يصبح هؤلاء أنفسهم عبئا عسكريا على الولايات المتحدة، خصوصا إذا لم يكن هؤلاء الجنود يتقنون الإنجليزية أو أن مستويات تدريبهم أو تسليحهم لا تتوافق مع التقدم العسكري الغربي في الحرب وأساليبها وتقنياتها. لكن رغم هذا، تريد واشنطن أن تذهب إلى حروبها محاطة بالحلفاء، كي تقول للعالم إنها لا تتحرك منفردة، وإن التوافق مع الآخرين هو أساس قراراتها.

الأحلاف العسكرية ضرورية حتى لدولة فائقة القوة مثل الولايات المتحدة. الأحلاف الاقتصادية والتوافقات على السياسات الاقتصادية لا تقل أهمية. في قلب هذه التوافقات حلف مهم هو أوبك+ الذي برز من فوضى الصراعات على الحصص التي وسمت مواقف أوبك عبر تاريخها الطويل.

قبل بضعة أشهر، وفي ذروة الحديث عن الحاجة إلى تنسيق بين المنتجين والمستهلكين على خلفية حرب أوكرانيا، قررت دول أوبك+ مجتمعة أن تقلص من حجم الإنتاج النفطي. تمكنت السعودية من أن تقود هذا التوافق، رغم كل ما قيل عن ضغوط مارستها على عدد من دول التحالف النفطي. أسواق النفط التقطت الإشارة بوضوح وتجاوبت معها بما يعكس رغبة في التأقلم مع رغبات المنتجين. زادت الأسعار، أو استقرت كما يحب خبراء الأسواق أن يسموا التغيرات في السعر. حتى الولايات المتحدة نفسها تذمرت ولكن بصوت خفيض، وهي الدولة التي استمرت في الحديث عن ضرورة زيادة الإنتاج لتعويض النقص في الإمدادات بسبب الحرب في أوكرانيا ولمحاصرة الإنتاج النفطي والغازي الروسي. كان من عوامل التذمر اقتراب موسم الإجازات في أميركا، مما يعني رغبة في توفير البنزين والديزل بأسعار رخيصة للأميركيين ليقوموا بهوايتهم المفضلة في الرحلات الصيفية بسياراتهم. اختلط الجيوسياسي مع المحلي، وكانت إدارة بايدن قد وجهت سهام النقد إلى السعودية، لكنها بعد أشهر، وعندما رصدت حجم التوافق المطلق داخل أوبك+، تركت المسألة تمر.

قبل أيام، بادرت السعودية إلى تخفيض الإنتاج دون استشارة تحالف أوبك+ أو إشعاره. سحبت مليون برميل يوميا من السوق، على أمل أن تتحسن الأسعار بعد تراجعها لفترة. وعلى العكس مما حدث قبل بضعة أشهر، لم تتأثر الأسعار ولم تسدْ الأسواق حالة القلق التي تقود إلى المضاربات وارتفاع الأسعار. التقط المستهلكون الغربيون إشارة مختلفة هذه المرة، بأن السعودية تحركت منفردة لفرض أمر واقع لا يريد غيرها من دول أوبك+ التجاوب معه. وفيما عدا تصريحات روسية تتحدث عن حرية السعودية في تقليص الإنتاج وأن من المفيد عدم رضوخ الرياض للإملاءات الأميركية، فإن السعودية خسرت عائدات مليون برميل يوميا من دون أن تتمكن من تغيير معادلة السعر. التحرك المنفرد هذه المرة لم يكن موفقا.

لا نعرف بالضبط هل كان التحرك بدوافع اقتصادية أم سياسية. ليس سرا أن العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية ليست على ما يرام. التسريبات التي نشرتها صحيفة واشنطن بوست الأميركية عن تهديدات متبادلة بين الطرفين بما يشبه العقوبات الضمنية، قد تكون صحيحة أو مبالغا فيها. لكن مصدر الخطر في تشنج العلاقات له عدة جوانب.

لا شك أن من حق السعودية أن تكون لها سياساتها الخاصة في التعامل مع الولايات المتحدة. لسنوات طويلة، تصرفت الإدارات الأميركية المتعاقبة بأن تتجاوب الرياض مع طلبات واشنطن. ومرة بعد أخرى، كانت العلاقات تمر بمآزق من نوعية ضلوع سعوديين، هم أغلب المهاجمين، في هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، أو التصعيد الكبير الذي صاحب مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول. لكن يتم ترميم العلاقات بفعل الدولة الأميركية العميقة الحريصة على مصالح تلك العلاقات المشتركة، ولإدراك أميركي مستمر بأن السعودية حليف موثوق وليس مزاجيا، حتى عندما تعلو الأصوات من الرياض بالتذمر.

بادرت إدارة بايدن بالعداء ضد السعودية وضد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تحديدا، حتى من قبل توليها السلطة. لا شك أن الكثير من الوسطاء الإقليميين سعوا إلى إصلاح ذات البين. لكن جوا من العدائية ظل سائدا، خصوصا مع تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة وتشخيصها للصين كند إستراتيجي في الحرب الباردة الجديدة.

فسرت واشنطن التقارب الخليجي مع بكين في غير صالح المنطقة، ثم عادت وبدأت بإرسال كبار مسؤوليها في زيارات واجتماعات مع كبار المسؤولين الخليجيين، وخصوصا مع ولي العهد السعودي. تبدو العلاقة الأميركية – السعودية أشبه بالمد والجزر، وصار من الواضح أن الرياض تسعى إلى تسجيل النقاط ضد واشنطن، وأنها تنتظر رحيل إدارة الديمقراطيين لصالح عودة الجمهوريين، وربما عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تحديدا.

حتى يحين موعد رحيل إدارة بايدن، تحتاج السعودية أن تكون أكثر حذرا في علاقتها مع الولايات المتحدة. ولعل الأكثر مدعاة للحذر هو أن لا يُزج بالآخرين في الجدل السياسي والاقتصادي بين الطرفين. إذا تجاوبت دول أوبك+ قبل أشهر مع المساعي السعودية لتقليص الإنتاج بهدف رفع الأسعار، فهذا لا يعني أن هذه الدول تابعة للقرار السعودي. وكما أن من حق الرياض أن تنظر إلى مصالحها في العلاقة مع الولايات المتحدة، فإن من حق الآخرين أن ينظروا إلى مصالحهم. التوافق، من تعريف الكلمة، هو توافق وليس آلية ضغط بحكم الأمر الواقع المتأتي من قدرة السعودية على زيادة أو تخفيض الإنتاج بمليون برميل كل مرة.

صمت دول تحالف أوبك+ الذي صاحب قرار السعودية الأخير بتخفيض الإنتاج له الكثير من الدلالات. الأسواق، وهي الاسم الحركي للمصالح الغربية، لم تتفاعل مع القرار وفهمت المغزى من عدم تجاوب دول تحالف أوبك+ معه. وربما من المفيد أن تستمع الرياض لأصداء هذا الصمت وألّا تبالغ في تقدير إمكانياتها في فرض الأمر الواقع. إذا كان ثمة درس من صمود أوبك+ وقراراتها ومنحى أسعارها، فهو عدم خروج دول التحالف عن التوافقات. لا نحتاج إلا أن نتذكر ما جرّت إليه سياسات عدم التوافق داخل أوبك من تراجع للأسعار وتضرر اقتصادات الدول النفطية في مراحل تنموية حرجة على مدى عقود. وإذا كان هناك درس إضافي من سياسات الولايات المتحدة، حتى في تحالفاتها العسكرية، فإن التحالفات، مع الصغار والكبار، لا تقل أهمية عن خوض الحروب.