عرب وعالم

الخميس - 11 ديسمبر 2025 - الساعة 11:29 ص بتوقيت اليمن ،،،

العرب


تلوح في الأفق مؤشرات إيجابية قد تؤدي إلى تخفيف حدة واحدة من أعقد الأزمات التي شهدتها العلاقات الدفاعية بين الولايات المتحدة وتركيا خلال العقد الأخير، إذ أعلن السفير الأميركي لدى أنقرة، توم باراك، أن التقارب الشخصي والسياسي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان أتاح فتح نافذة جديدة لمعالجة القضايا العالقة التي أدت إلى استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات الجيل الخامس إف-35.

و أشار السفير إلى أن العلاقة الإيجابية بين الرئيسين وفرت مناخًا جديدًا للتعاون، وهو ما سمح بعقد ما وصفه بـ "أكثر المحادثات المثمرة منذ نحو عقد من الزمن"، في إشارة واضحة إلى تحوّل ملموس في المزاج الأميركي تجاه أنقرة بعد سنوات طويلة من التوترات الدبلوماسية التي نشأت على خلفية شراء تركيا منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400.

وقد أثّر هذا الانفراج بشكل ملموس على قراءة واشنطن لأهمية تركيا داخل منظومة حلف شمال الأطلسي ( الناتو)، إذ يبدو أن الولايات المتحدة بدأت تدرك مجددًا الدور المركزي الذي تلعبه أنقرة في التوازن الإقليمي، خاصة مع تصاعد التحديات الأمنية في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط، الأمر الذي يجعل من تركيا شريكًا استراتيجيًا لا يمكن تجاوزه في صياغة السياسات الدفاعية والأمنية للحلف والدول الحليفة.

وتعود جذور الأزمة إلى الولاية الأولى للرئيس ترامب، عندما قررت تركيا شراء منظومة إس-400 الروسية، وهو ما اعتبرته واشنطن تهديدًا مباشرًا للأمن التكنولوجي لمقاتلات إف-35 المتطورة.

وقد ارتكزت المخاوف الأميركية على احتمال استخدام المنظومة الروسية لجمع معلومات دقيقة عن قدرات المقاتلات الشبحية، ومن ثم وصول هذه المعلومات إلى موسكو، ما قد يؤثر على التفوق التكنولوجي الأميركي وعلى قدرة الناتو على الاحتفاظ بميزة تفاضلية في الدفاع الجوي والقدرات العسكرية الحديثة.

ونتيجة لذلك، تم استبعاد تركيا من البرنامج، على الرغم من كونها شريكًا صناعيًا واقتصاديًا رئيسيًا فيه، وهو ما دفع العلاقات الدفاعية الثنائية نحو مسار من الشكوك المتبادلة والضغوط الدبلوماسية والسياسية، وخلق حالة

من الاحتقان داخل الحلف الأطلسي، إذ انعكس هذا الخلاف على مستويات التنسيق العسكري والاستراتيجي بين الحلفاء، وأدى إلى إعادة تقييم الدور التركي في ملفات حساسة تتعلق بالأمن الإقليمي.

وتشير التصريحات الأخيرة للسفير باراك إلى أن الولايات المتحدة وأنقرة دخلتا مرحلة جديدة من المحادثات، تختلف عن السنوات السابقة التي سيطرت عليها سياسات التشدد والرفض المتبادل، وهو ما يوحي بوجود مقاربة أميركية أكثر براغماتية للتعامل مع الملف التركي.

ويبدو أن هذه المقاربة تستند إلى عدة عناصر رئيسية، أهمها إعادة تقييم الكلفة الاستراتيجية لاستبعاد تركيا عن مشروع دفاعي ضخم يشارك فيه معظم دول الناتو، واستثمار العلاقة الشخصية بين الرئيسين كقناة اتصال مرنة تتجاوز التعقيدات البيروقراطية، فضلاً عن الرغبة الأميركية في احتواء النفوذ الروسي عبر إعادة تركيا إلى محور التعاون الأطلسي الكامل.

ومع ذلك، تبقى التسوية محتاجة إلى معالجة جوهرية، تتمثل في إيجاد حلول تقنية وسياسية تضمن عدم تهديد منظومة إس-400 لسرية تكنولوجيا إف-35، وإيجاد ترتيبات تُرضي الطرفين دون أن يظهر أي منهما بمظهر المتراجع عن مواقفه السيادية، وهو تحدّ معقد يتطلب دقة سياسية عالية ومرونة تفاوضية غير مسبوقة.

وإذا تم التوصل إلى حل، فإن تأثيراته لن تقتصر على مسألة المقاتلات، بل ستتجاوز ذلك إلى عدة أبعاد استراتيجية هامة. أولاً، يمكن أن يسهم في تخفيف الاحتقان داخل حلف الناتو، إذ كانت قضية إس-400 واحدة من أبرز مصادر الخلاف بين أعضاء الحلف خلال السنوات الماضية.

وثانيًا، فإن أي تسوية ستعزز موقع تركيا كفاعل محوري في الأمن الإقليمي، وهو ما قد ينعكس على ملفات معقدة مثل سوريا والبحر الأسود وليبيا، حيث تلعب أنقرة دورًا مؤثرًا في صناعة التوازنات الاستراتيجية وحل النزاعات الإقليمية.

وأما ثالثًا، فإن الحل المحتمل قد يفتح الباب أمام تعاون صناعي وعسكري جديد بين واشنطن وأنقرة، يعيد بلورة قواعد الشراكة الدفاعية بين البلدين، ويعزز التنسيق في مجالات متعددة مثل التدريب العسكري المشترك، والصناعات الدفاعية، وتبادل المعلومات التقنية والأمنية، وهو ما يعكس قدرة الطرفين على تجاوز الخلافات السابقة لصالح مصالح استراتيجية مشتركة.

كما أن أي اتفاق محتمل سيكون بمثابة اختبار حقيقي لقدرة البلدين على تجاوز خلافات عميقة وفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، اعتمادًا على التفاهم الشخصي بين الزعيمين.

ولا تعني إعادة بناء الثقة بين واشنطن وأنقرة فقط حل مشكلة إف-35، بل تمثل مؤشرًا على قدرة الحليفين على العمل معًا ضمن إطار الشراكة الاستراتيجية الأطلسية، والمرونة المطلوبة في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.

وفي سياق أوسع، يمكن اعتبار هذه التسوية نموذجًا عمليًا لكيفية إدارة الأزمات بين القوى الكبرى ودول الحلفاء، عبر الجمع بين الاعتبارات التقنية، والمصالح الأمنية، والعلاقات الشخصية، ما يتيح خلق توازن عملي بين السيادة الوطنية والالتزامات الدولية.

ويعكس التصريح الأميركي الأخير تحوّلًا ملموسًا في مواقف واشنطن، ويشير إلى أن ملف استبعاد تركيا من برنامج إف-35 لم يعد مغلقًا كما كان يُعتقد خلال السنوات الماضية، وأن هناك إرادة سياسية مشتركة لإيجاد حلول عملية وواقعية.

ورغم أن الطريق نحو التسوية النهائية لا يزال معقدًا ويحتاج إلى خطوات دقيقة لضمان مصالح الطرفين، فإن العلاقة الشخصية بين ترامب وأردوغان تمنح الأمل في إمكانية الوصول إلى صيغة توافقية، قد تصبح نموذجًا لتوازن المصالح بين الولايات المتحدة وتركيا، وتعيد إطلاق التعاون الدفاعي والاستراتيجي بين البلدين على أساس أكثر مرونة وواقعية.

وفي هذا السياق، تبدو العلاقات الأميركية التركية عند نقطة تحول حاسمة، حيث يمكن أن يؤدي أي تقدم في هذا الملف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي وإعادة ضبط ديناميات التحالف داخل الناتو، فضلاً عن تثبيت دور تركيا كلاعب مؤثر قادر على الموازنة بين مصالحه الوطنية والالتزامات الدولية، ما يعكس قدرة الحليفين على إدارة الأزمات بطريقة تعكس التوازن بين المصالح الاستراتيجية والسيادة الوطنية والتعاون الإقليمي والدولي.