عرب وعالم

الإثنين - 11 سبتمبر 2023 - الساعة 12:38 ص بتوقيت اليمن ،،،

د. هيثم الزبيدي


يمكن أن نتعلم الكثير من الطريقة التي انتهجتها شركة الاتصالات السعودية للحصول على نسبة أكبر من أسهم شركة الاتصال الإسبانية تليفونيكا. لا زالت الحكومة الإسبانية تقلب أوراق الصفقة التي ترفع من حصة الشركة السعودية، ومن خلفها صندوق الاستثمار السعودي، في تليفونيكا.

هناك قوى سياسية إسبانية تريد عرقلة الأمر، ولكن الأرجح أن السعوديين أنجزوا واجبهم المنزلي واستعدوا للأمر. أسهم أكثر في تليفونيكا تعني حصول شركة الاتصالات السعودية على منفذ نحو التقنيات الأكثر تقدما عالميا، في مجال الاتصالات وحزم الإنترنت العريضة.

هذا هو المشهد العام لنظرة السعودية للعالم اليوم. ثمة خطة ربح من نوع ما، في قطاع ما، في مكان ما. الفائض المالي الكبير يذهب نحو استثمارات كبيرة في كل مناحي الاقتصاد في العالم، واستثمارات لا تقل أهمية في تنشيط الاقتصاد السعودي لتحقيق “رؤية 2030″، وهي خطة التحديث التي تبنتها القيادة السعودية الشابة منذ سنوات.

الذي زاد من زخم العمل على تنفيذ الخطة هو الفيض المالي المرتبط بتطورات عالمية، منها حرب أوكرانيا وإن كانت ليست محصورة فيها. السعودية اليوم تنتج كميات كبيرة من النفط وتبيع بأسعار تناهز 90 دولارا للبرميل وتنسق العمل مع روسيا للسيطرة على تجمع أوبك+ للتحكم في السوق النفطية. لا يجد أعضاء أوبك+ أو زبائن التجمع من الدول الغربية الكبرى سوى التجاوب مع العملاقين النفطيين.

في كل هذا تضع السعودية شعارها غير المعلن رسميا “السعودية أولا” نصب عينيها. وبمراجعة بسيطة لسنوات حكم القيادة الشابة في السعودية، تتطابق الخطة مع التصريحات التي تتطابق بدورها مع العمل والإنجاز. لا شيء مما قاله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان منذ توليه السلطة في البلاد إلى يومنا هذا يتعارض مع سياسة “السعودية أولا”، ولا مع تحقيق “رؤية 2030”. لعل الفارق هو أن “رؤية 2030” اليوم أوسع وأشمل وبإيقاع أسرع وبمال أكثر للتأكد من التنفيذ.

“السعودية أولا” وجدت صداها لدى السعوديين. تطابقت رؤية القيادة الشابة مع طموح الشباب السعودي. شعبية الأمير محمد بن سلمان في أوجها بين الناس. وفيما عدا المتضررين من أمراء ورجال أعمال ممن تم تحجيمهم أو محاسبتهم، ومن رجال الحسبة الذين أخرجوا تماما من الفضاء الاجتماعي العام في السعودية، فمن الإنصاف القول إن التأييد الشعبي لخطوات القيادة السعودية يتجاوز التوصيف السائد بالقول “الناس على دين ملوكهم”. هذه لحظة استثنائية في التاريخ السعودي المعاصر، والقيادة السعودية تدرك أهمية الاستفادة منها إلى أقصى مدى.

السعودية تحركت خطوة أخرى لحماية هذا المشروع بتبني سياسة نزع العداوات مع الإقليم. بدأت بتفكيك الخلاف مع قطر في قمة العلا، ثم بالسعي إلى تثبيت هدنة هشة مع الحوثي في اليمن وصولا إلى فتح باب تصفية المشاكل -لتجنب القول المبالغ فيه بتصفيرها- مع إيران.

طهران لا ترى خطرا في تصفية المشاكل مع الرياض لأن لا يوجد لديها ما تخسره. هي متمكنة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، وبإطلالة إستراتيجية على الخليج. مشروع تأجيج الأقليات الطائفية في الخليج ليس مستعجلا. السعودية ليست بصدد تحدي نفوذ إيران في أي من هذه الدول. فالعراق منشغل بأولوياته وصدق أنه يلعب دور الوسيط بين الإيرانيين والسعوديين، وتمت مصالحة اسمية مع الأسد لن تقدم أو تؤخر، ولا اهتمام سعوديا يذكر بلبنان، والفلسطينيون يمارسون هوايتهم بلوم الجميع إلا أنفسهم.

العقدة تبقى في اليمن لتداخلات كثيرة. فالحوثي يريد أن يؤكد انتصاره وأية ترتيبات قادمة في شمال اليمن يجب أن تكون على حساب الشرعية وحلفاء السعودية هناك. أما جنوب اليمن فيبدو الأمر في بداياته سياسيا، والموضوع يتجاوز السعودية وحدها -بحكم وجود أطراف يمنية جنوبية متقاطعة الأهداف- ويمتد إلى النفوذين الإماراتي والعماني في أقاليم الجنوب. إيران، للمفارقة، قد تكون عاملا مساعدا لتسوية سعودية مع الحوثي، تترك المجال أوسع للرياض في التعامل مع ملف الجنوب.

والسعودية تحركت خطوة ثالثة بالابتعاد عن التحالف مع الولايات المتحدة، والذهاب بعيدا في الانفتاح على قوى عالمية أخرى، عظمى وكبرى، تبدأ بالصين ولا تتوقف عند الهند. واشنطن اليوم، كما نرى في مساعي إدارة بايدن لترميم العلاقة مع الرياض، تحاول العودة بالعلاقة إلى ما كانت عليه. ولعل خطوة “الممر” التي تم التوقيع عليها أمس في نيودلهي هي عودة أميركية إلى المنطقة بأجندة مشتركة، فيها جانب استرضاء السعودية وآخر يحد من تزايد النفوذ الصيني في المنطقة. الولايات المتحدة ليست قلقة تماما من التنسيق السعودي – الروسي، لأن سقف طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الآن مرتبط بما يستطيع تحقيقه في حربه في أوكرانيا.

نعم إذًا لسياسة “السعودية أولا”. السعودية تحقق الكثير من خلالها وتخرج إلى أفق واسع بعيدا عن عالم الارتباط بمشروع ديني لم يجلب لها إلا المخاطر. المشكلة تكمن في أن هذه السياسة تتحول إلى “السعودية أولا وأخيرا”. فعلى مدى السنوات الأخيرة، وخصوصا السنتين الأخيرتين، تبدو السعودية منشغلة بمشروعها الخاص وتبتعد يوما بعد آخر عن دور يرتبط بمكانتها الإقليمية والعالمية. هذا الابتعاد صار يشكل هاجسا لحلفائها وأصدقائها الذين يرون في السعودية ركنا مهما في كيان الاستقرار الإقليمي. وسواء أكان دور السعودية ماليا، من خلال الاستثمارات والمنح والدعم المباشر، أم سياسيا من خلال التنسيق مع الدول المحورية في المنطقة، أم أمنيا – عسكريا من خلال المشاركة الفاعلة في تأمين الإقليم، فإن سعودية تتجاهل مشكلات الإقليم وتبتعد عنها، هي سعودية ستجد أن مشاكل المنطقة ستذهب إليها وتتسبب في ضغوط عليها مهما حاولت الرياض تجنب ذلك.

لا شك أن الجزء الخاص بـ”السعودية أخيرا” نابع من تجارب تعتقد القيادة السعودية أنها تبرر مواقفها نحو الانطوائية السياسية بعيدا عن المشاكل. وسواء أكانت تجارب سعودية أم تجارب الآخرين، فإن الرياض تتبناها لتصبح نسقا في سياستها الإقليمية والعالمية.

ربما كانت تجربة قطر من الدروس التي تعلمت منها السعودية. في لحظة، قاطع الإقليم إلى حد كبير الدوحة. صمدت الدوحة بعوامل مختلفة أمام المقاطعة وكان الأساس في قدرتها على الصمود هو المال الذي شكل لها شبكة علاقات كبرى ومهمة خففت من تأثير المقاطعة إلى حد كبير. لكن قطر استعانت بحلفاء إقليميين كبار، وخصوصا تركيا وإيران. الأتراك راسلوا جنودهم لحماية بيت الحكم في الدوحة، والإيرانيون كانوا المنفذ المباشر لتجارة القطريين وحركة طيرانهم. ولعب العمانيون والكويتيون أدوارا في التخفيف من العزلة السياسية الإقليمية، وراهن الجميع على عامل الوقت لتخرج قطر من المقاطعة كما دخلتها تقريبا. لا شك أن السعودية تعلمت من هذا الدرس، لكنها حذفت الدورين التركي والإيراني في الصمود القطري.

ثم هناك تجربة العزلة التي صاحبت أزمة مقتل الصحافي جمال خاشقجي. بكل المقاييس، كان رد فعل كثيرين على الجريمة ضمن منطق تصفية الحساب مع السعودية عموما وولي العهد خصوصا. في النهاية، دفعت الرياض ثمنا باهظا من العزلة. انتهت أزمة خاشقجي ضمن ترتيبات تتعلق بقوة مؤسسة الحكم في الرياض وتماسكها، وبأهمية السعودية المحورية في مفاصل اقتصادية وسياسية عديدة أهمها النفط. عاد المنتقدون إلى الرياض ولم تعد لهم أو عادت بتمنع.

لا شك أن الضربة التي وجهتها إيران وحلفاؤها لمنشآت أرامكو في أبقيق كان لها أثر كبير في تبني “السعودية أخيرا”. المسيّرات والصواريخ الحوثية فوق الرياض ليست بالمنظر الذي كانت الرياض تتوقعه بعد سنوات من حربها في اليمن.

من حق السعودية أن تبتعد عمن كاد لها وأذاها سياسيا ومعنويا. لكنها توسعت بالابتعاد فشمل الجميع. لسبب ما تتصرف الرياض على أن لا حلفاء لها الآن إلا أسهمها في الشركات العالمية، ورصيدها في المصارف، والأرقام الإيجابية التي تصدرها أرامكو. حتى المتجاوبون مع قراراتها الخاصة بضبط أو تغيير الإنتاج النفطي لتعديل منحى الأسعار، صار التعامل معهم يتم ضمن منطق “ما هي خياراتكم؟”.

هل تستطيع السعودية التعايش مع واقع إقليمي بحلفاء أقل أو من دون حلفاء؟ لا شك أن السعودية قوة مالية واقتصادية كبرى. ولا يمكن الاستهانة بقدراتها العسكرية أيضا، كما شهدنا في أداء قواتها الجوية ودفاعها الصاروخي.

لا نعرف إلى أي مدى يتم تقييم أداء القوات البرية من جيش وحرس وطني في المواجهات مع الحوثي جنوب البلاد، لكن لا شك أن القيادة السعودية عليمة بمستوى تلك القوات وقدراتها. مجموع القوة المالية والاقتصادية والعسكرية الذاتية السعودية شيء لا يستهان به خصوصا إذا أضفنا الوقع المعنوي الديني لبلاد الحرمين.

لكن عالمنا اليوم يتغير بطريقة مربكة للجميع، طريقة يمكن من خلال حفنة مسيّرات بألوف الدولارات لا أكثر أن تقلب موازين عسكرية تقليدية أنفقت عليها المليارات. هذه اعتبارات لا يمكن تجاوزها حين يتم تقييم رسم التحالفات الجديدة.

لعل البعض سيقول إن هذا التقييم فيه مبالغة وسيرد بالتذكير بالاتفاق الذي وقع بالأمس في نيودلهي، وأن السعودية لا تزال تعمل ضمن “السعودية أولا” مع آخرين. المصافحة المشتركة بين الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي التي أعقبت الاتفاق على “الممر” مؤشر مفيد، لكنه في خضم مؤشرات مضادة كثيرة يبدو مؤشرا وحيدا. وهو مؤشر يثير التساؤل عما إذا كان صيغة سعودية جديدة للتعامل مع الحلفاء، أم قرارا أميركيا يقضي بالعودة إلى المنطقة من بوابة إزعاج الصين؟

منطقتنا المتأرجحة في استقرارها لا تسمح بالكثير من التجريب والاختبار والعودة عن القرارات. ولدولة محورية مثل السعودية، يبدو الاستغناء عن هذا الدور المحوري والاكتفاء بدور معنوي، من الخيارات غير الواردة. خيار “السعودية أولا وأخيرا” ليس من تلك الخيارات.