أخبار وتقارير

السبت - 02 سبتمبر 2023 - الساعة 08:31 م بتوقيت اليمن ،،،

كتبه أ. د. عبدالله بن عبدالله عمر


قصيدة (العيون) للشاعر صالح نصيب:
وقعت في حب أعمى
بين الحـوَر والجفون
حيث الجــلال تسامى
في سحر تلك العيون
الفاتنة العسلية
تلك البريئة الرضية
يهون قتلي يهون

هذا شروع في شرح المقطع الأول:
قوله: وقعت في حب أعمی

استعمل الفعل(وقع) في صورة الزمن الماضي، لأنّه يحكي لنا حدثًا جرت وقائعه في الماضي، و الوقوع أقوی من السقوط دلالة وتأدية للمعنی المراد، ويُوحي بأنّ الشاعر وقع فجأة في الحب من غير إرادة منه، فوصفه الحب بأنّه أعمی، يوحي بوجود حب غير أعمی، وضابط الحب غير الأعمی يكون في الغالب حب مصلحة مادية، وإن لم يكن المحبوب يستحق المحبة بخلاف الحب الأعمی، فإنّه من غير تفكير ولا روية، ومن غير مراعاة لتبعات هذا الحب، فهو حب غير إرادي (يمثله شعراء الحب العذري).

إنّ شاعرنا نصيب - رحمه الله - في هذا الوصف يُشبِّه الحب بإنسان أعمی، فقولنا: حب أعمی يساوي قولنا: رجل أعمی، وفيه دلالة علی معاناة الشاعر من هذا الحب.

والحب صدفة قد عانی منه الشعراء ومنهم الشاعر الجاهلي، يقول الأعشی:

عُلقتها عَرَضًا وعُلِّقت رجلًا غيري
وعُلِّق أخری غيرها الرجلُ
فقوله: عرضًا أي فجأة.
قوله:بين الحور والجفون:

الحور: شدة بياض بياض العين مع شدة سواد سوادها، وهذه الصورة تعطي العيون جمالًا وتجعلها محل فتنة واهتمام.

والجفون: جمع جَفْن، وهو غطاء العين من أعلاها وأسفلها، فقد حدّد الشاعر الموضع الذي وقع فيه الحب بأنّه بين غطاء العين وبين حورها.

ولنصيب - رحمه الله - بيت آخر يذكر فيه الجفون أنّها منطلق سهام كادت تطفي نور عينه، يقول فيه:

سل عيونك سهمها ليه انطلق
من جفونك ورماني بالحدق
كادت يطفي نور عيني

لم يقف نصيب - رحمه الله - عند ذكر الوقوع، بل كشف لنا عن مميزات الموضع الذي وقع فيه وما يتحلی به من صفات أدهشت شاعرنا فنظم قصيدته كلها فيه، والموضع داخل (العيون)، وهو بذلك يشبه سائح نزل بلدًا أو وقع من علی طائرة أو رمت به أمواج في جزيرة فوقف مُتعجِّبًا من جمال ذلك المكان وروعته وشرع يُعدِّد صفاته الخلابة الجميلة الفاتنة.

ثم يقول نصيب -رحمه الله-:

حيث الجلال تسامی
في سحر تلك العيون

الجلال: العظمة. قال تعالی:{ تبارك اسم ربك ذي الجلالِ و الإكرم} الرحمن، أي ذي العظمة.
والجلال من كل شيء معظمه.

فهو يری أنّ العظمة تجلت في تلك العيون.

تسامی: تعالی وظهر مُترِّبعًا وكانّه مستوٍ علی عرش، وفي المعجم الوجيز: تسامی القوم أي تفاخروا، والتسامي من السمو أي العلو، وهو من سما يسمو ومنه سامي مرتفع، والسمو يفيد التفاخر.

فشبّه الجلال (العظمة) بملك بهي الطلعة لم يرضَ إلا بالتربع في أحسن وأجمل موضع متفاخرًا، موضع كله روعة، فالجلال يتفاخر بوقوعه متساميًا أي مرتفعًا عاليًا في وسط العيون التي تتمتع بكل صفات الجلال والجمال والبهاء.

قوله: في سحر تلك العيون

جعل للعيون سحر تسحر كل من يقع نظره عليها، أي تسلب لبُّه وتستميله.

ثم شرع يضفي علی هذه العيون عددًا من الأوصاف الجميلة التي ابتدعها صالح نصيب من ثروته اللغوية ومنجمه البياني ومن خياله الخصب.

لقد وصف نصيب - رحمه الله - العيون من كل جهة وأتی بكل وصف جميل، فكساها إياه، فقوله:
الفاتنة العسلية

فاتنة اسم فاعل من الفعل فتن، ووصف (فاتنة) عادة ما توصف به المرأة، لكن نصيب - رحمه الله - خص به العيون، والفاتنة التي تستهوي من يقع نظره عليها وتجعله يوله بها. والعيون هي رأس البلاء كما قال القائل:

نظرة فابتسامة فموعد ولقاء

وقال الأخر:

كل الحواث مبدؤها من النظر

فالعيون التي يتغنی بها نصيب فاتنة تُفتن من تقع عليه. وفاتنة وصف لتأثيرها المعنوي و الحسي.

وقوله: العسلية

هو وصف للون العيون، والعسلية من العسل وهو الصافي مما تخرجه النحل، فعسليه صافية من كل ما يُفسد جمالها فالألوان لها تأثير، واختار اللون العسلي مخالفًا للمعتاد عند الشعراء؛ إذ المعلوم إنّ اللون المرغوب في العيون اللون الأسود، يقول القمندان:

وعينين سود علی قلب أهل الهوی سيف محدود.

وقول شاعر لحجي أخر:
يا بو العيون السود

والعسلية تحمل حلاوة اللون ولذة الطعم وليونة الطيع، فالعسل لونًا وطعمًا وملمسًا محبوب ، فالعيون تجلت فيهاكل هذه الصفات.

وقوله:
تلك البرية الرضية

انتقل نصيب - رحمه الله - من وصف حسي للعيون إلی وصف معنوي تمثَّل في البراءة والرضی
وفيه كناية عن خلوها من العيب أو التهمة أو الذنب بريئة من الخبث، والبرية من البراءة، والبراءة عكس الخيانة والغدر و العيون توصف بالخيانة. قال تعالی:{ يعلم خائنة الأعين}، فعيون ممدوح نصيب بريئة من كل ما يفسد حلاوتها المعنوية.

والرضية: ورضی العيون دلالة علی رضی نفس صاحبها وعدم تضجره، ورحابة صدره، ومتی ما اطمئنت النفس وصفت ظهر ذلك علی عينيها.

وختم المقطع الأول بقوله:
يهون قتلي يهون

فهوّن قتله في سبيل تلك العيون التي حوت كل تلك المحاسن والصفات الرائعة.

انتهی شرح المقطع الأول
يتبع بإذن الله المقطع الثاني