أخبار وتقارير

الخميس - 13 أبريل 2023 - الساعة 08:31 ص بتوقيت اليمن ،،،

إبراهيم الزبيدي


كانت تلك الفترة من أكثر الفترات التي كنا (أنا وصدام) نلتقي فيها. كان ينتظرني في مكتب الجمعيات الفلاحية إلى أن أنتهي من عملي في الإذاعة ثم نلتقي. فنبقى في الشقة نفسها ونطلب غداءنا أو عشاءنا أو نذهب إلى أي مكان آخر. كنت أستطيع أن أتدبر له إذنا بدخول الإذاعة لزيارتي وانتظاري إلى أن أنتهي من العمل، لكنه كان يتفادى ذلك، خصوصا وأن علي صالح السعدي (أمين سر حزب البعث ونائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام) كان يتردد أحيانا على الإذاعة، وصدام يكره الالتقاء به.

حضرت ذات مرة لقاء ساخنا بينهما بالمصادفة. ففي حفل كان مقاما على قاعة مسرح الخلد ببغداد برعاية أمين سر القيادة القطرية نائب رئيس الوزراء وزير الإعلام علي صالح السعدي، كنت المذيع المكلف بنقل فقراته إذاعيا وتلفزيونيا وعريفه أيضا. وبعد أن قدمت مطربا، توقعت أن لا ينتهي قبل ساعة على أقل تقدير، أردت أن أستريح وأن أتمشى قليلا في حدائق القاعة. فوجئت بصدام وأحمد طه العزوز يقفان على جانب سلم مدخل القاعة، يتسكعان ويتفرجان على الداخلين والخارجين.

قد يعجبك أيضا

صدام حسين في بغداد شاب تلاحقه المشكلات

وقفت أسلم عليهما وأتبادل معهما الحديث، فإذا بعلي صالح السعدي يخرج من القاعة في تلك اللحظة مغادرا قبل انتهاء الحفل الذي يرعاه. وحين شاهَدنا استدار واقترب منا مؤنبا ومعنفا ومتهما إيانا بقلة الأدب والتحرش بالنساء. أما أنا فقد اعتذرت منه، وهممت بالعودة إلى داخل القاعة، أما صدام فقد تصدى بهدوء بالغ لأمين عام حزبه علي السعدي وفاجأه متحديا: إذا لم تخرس وتنقلع من هنا فسوف أهينك على مرأىً من حراسك وبقية الناس. ورغم ما كان معروفا عن صلابة السعدي وعنفه فقد صمت بضع ثوان أظنه حسبها مع نفسه ففضل تلافي الفضيحة، ثم استدار وغادر المكان دون كلام.

بعدها عاتبت صدام لأنه أشركني في موقف التحدي والمشاكسة وعرضني للفصل من وظيفتي. فرد علي ساخرا مني ومن القادة “الجبناء” الذين أخشى أذاهم. وكان لا يتوقف عن السخرية من علي السعدي ومن أعضاء آخرين في القيادة وينعتهم بالجبن والنفاق.

"ردة تشرين"

كان طبيعيا ومنطقيا أن ينخرط صدام في أي عمل ينال من قيادة حزب البعث التي أهملته ونسيت بطولاته وتضحياته النادرة. فقد شارك بفاعلية وحماس في الانقلاب الذي لا يزال البعثيون يعتبرونه خيانة ويطلقون عليه اسم “ردة تشرين”، الذي قام به عبدالسلام عارف والعسكريون البعثيون، طاهر يحيى ورشيد مصلح وأحمد حسن البكر وحردان التكريتي، ضد قيادة الحزب والحرس القومي.

بلغ الصراع درجة عالية من التوتر، وبدأت عناصر حزبية وعسكرية تتسلل ليلا إلى القصر الجمهوري للاجتماع بالبكر وعارف وطاهر يحيى وتنقل لهم ما كان يدور في الاجتماعات والمؤتمرات الحزبية وما تطالب به قواعد الحزب وقياداته الدنيا، “وكان على رأس قائمة هؤلاء المخبرين صدام حسين التكريتي وطه العزوز وطارق عزيز وحسن الحاج ودّاي العطية وآخرون".

وبتاريخ 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1963، تم اعتقال أعضاء المكتب الفلاحي، وصدام أحدهم - كما أسلفت - باعتبارهم أعداء الحرس القومي. وبعد ثلاثة أيام، أي في 18 أكتوبر 1963، عين حردان التكريتي مشرفا سياسيا على الإذاعة، كما عين ابن خاله عدنان خيرالله طلفاح آمرا لقوة حماية الإذاعة.

وبعد أن سيطرت قوات الانقلابيين على دار الإذاعة بدأ صدام التكريتي وطارق عزيز يوجهان البرامج ويذيعان النداءات باسم القيادة القومية مطالبين البعثيين بالكف عن المقاومة، والتعاون مع الحكم الجديد.

كان صدام يزورني هو وعدنان خيرالله في غرفة المذيعين، يوميا، ويقضيان معنا ساعات تعرّفا خلالها إلى بعض المذيعين وأسلوب عملهم. وكان صدام يتطوع فيطلب الطعام للموجودين من مطعم قريب من الإذاعة. إلا أنه لم يمكث طويلا في الإذاعة. فجأة غاب هو، وانقطع عدنان عن الزيارة اليومية للمذيعين، ثم علمنا بعد ذلك بأن عبدالسلام عارف قد انقلب على حردان وأحمد حسن البكر وطردهما من السلطة، الأمر الذي لم يترك لصدام خيارا سوى الهرب والاختباء. أما عدنان فقد نقل إلى موقع آخر.

بعد 30 يوليو 1968

حين حدث انقلاب 17 تموز (يوليو)، كنت في مهمة إذاعية خارج العراق. وحين عدت بعد ذلك بأسابيع وجدت أن هاتف منزل خيرالله طلفاح قد تغير، وعلمت أيضا أن صدام يعمل في القصر الجمهوري، ولكن لا أعلم ماذا يفعل. وكل ما توقعته أن يكون في أمن الرئيس أو أحد أفراد حمايته.

هاتفت القصر الجمهوري وطلبت الحديث مع صدام حسين التكريتي، فرد علي بسرعة وحرارة وأريحية أكثر من ذي قبل. وفسرت ذلك بحالة السرور التي أدخلها عليه موقعه الجديد. وكان كل ما كنت أطلبه منه هو رقم الهاتف الجديد لمنزل الخال. وبالفعل سارع إلى البحث عنه وإملائه علي.

بعد ذلك بمدة غير طويلة طلبني الصحاف إلى مكتبه وقال: انتظر مكالمة هاتفية خاصة. دقائق ودق جرس الهاتف، وحين رفعت السماعة جاءني صوته، فقلت:

أهلا أبوعدي. ففوجئ وقال: من؟

قلت: إبراهيم.

فسأل مرة أخرى: إبراهيمنا؟

قلت: هو ذاته.

قد يعجبك أيضا

عقاب من صدام حسين للقذافي والأسد... وحقائب مالية لشيراك وبوتو وعون

فطلب مني أن أتعرف على شخص يريد رؤيتي اسمه سعدون شاكر. وحدد هو الموعد في مقهى في شارع السعدون، وأعطاني أوصافه، والعلامة كانت أنه سيدخل وهو يداعب سلسلة مفاتيح. وفي الموعد تم لقائي بسعدون شاكر. سألني عن تفاصيل أخرى عن التقرير. فاستغربت وسألته عن أي تقرير يتحدث؟ فقال: التقرير عن الدبابات والأكراد.

سألته مرة أخرى: هل تقبلون تقريرا حزبيا من واحد غير حزبي؟ فصعق وقال: هل أنت غير حزبي؟ قلت: نعم.

قال: إذن ما سر علاقتك الحميمة بأبوعدي؟ قلت: تلك حكاية طويلة. وانتهى اللقاء، ولم يكلمني بهذا الموضوع ثانية لا هو ولا أبوعدي.

"عزيزي المستمع"

من المسلمات الثابتة في العمل الإذاعي أن المادة الكلامية هي المادة التي تحظى بأقل نسبة مستمعين بين باقي ألوان العمل الإذاعي. وتختلف نسب ارتفاع أو انخفاض عدد مستمعي كل لون من البرامج الإذاعية، من بلد إلى بلد ومن زمن إلى زمن ومن ظرف إلى ظرف آخر. لكن لكل قاعدة استثناء. وأعترف بأن برنامج "عزيزي المستمع" لم يكن شيئا خارقا. لكنه كان يدهش المواطنين بما يثيره من هموم وأفكار ومشاكل يحبسونها ولكنهم لم يتعودوا على سماع من يجرؤ على التصريح بها في الإذاعة.

حاولت أن أستخدم لغة سهلة بسيطة صادقة ساخنة. كانت كل حلقة تثير موجة عاصفة من الردود. فيصب بعضهم علي حقده وغضبه، ويتوهم بعضهم الآخر أنني بطل مغوار تخطى حدود المسموح به من السلطة. والحقيقة هي غير ذلك. فكل الحكاية أن النظام الحاكم، وهو جديد في السلطة، كان في حاجة يومها إلى بالونات توفر له تحقيق نوع من التفريغ لدى المواطنين.

بدأت بتقديم "عزيزي المستمع" بعد نكسة حزيران (يونيو) 1967، ولم يتوقف إلى غاية عام 1973، وقد تكرمت عليّ إذاعة إسرائيل وإذاعة الشاه من الأهواز أكثر من مرة بشتائم احتفظتُ بتسجيلات منها إلى أمد قريب. كما تلقيت العشرات من رسائل التهديد من مجهولين.

وأذكر أنني سخرت ذات مرة من إحدى تلك الرسائل التهديدية، فاتصل بي صدام حسين شخصيا وكان نائبا للرئيس أحمد حسن البكر، وطلب مني عدم الإشارة إلى أي تهديد، وقال: إننا نتلقى كل يوم المئات من الرسائل ومن المكالمات الهاتفية التي تحمل تهديدات الناس لنا بالموت، ولا نرد.

بعد مدة زارنا صدام حسين واجتمع برؤساء أقسام الإذاعة والتلفزيون في الصالة الكبرى الواقعة فوق الكافيتريا. كان لا يزال في أول السلم ولا يفقه شيئا من أمر الاجتماعات وغير معروف من أغلب الناس. لكنه كان عازما على مباشرة طريق صعوده نحو القمة. كان يشغله آنذاك أمران: الأول حمل الناس على

اعتباره الرئيس القادم، ومعاملته بما يليق بهيبة الرئيس، وهذا لا يأتي إلا بالمزيد من الجدية والصرامة والعبوس وتصنع الوقار. والثاني عكس ذلك تماما. إغراء الناس بحبه والتعلق به كمنقذ ومخلص طيب القلب يعطف على الصغير قبل الكبير، ويساعد الضعيف قبل القوي.

قد يعجبك أيضا

كيف حاول صدام حسين اغتيال "الخميني" بتفجير وسادته؟

بدأ الاجتماع بطلب منه بأن ينطلق الحاضرون في عرض مشاكل الإعلام والعقبات التي تحول دون انطلاق مسيرة إعلامية مزدهرة ناشطة. وألح على ألا نتهيَّب أو نتردد في المصارحة، باعتبارنا خبراء وصناع القرار في مجال الإعلام، على حد قوله. فنهض رمضان قاطع، وكان يومها رئيسا لقسم الريف في الإذاعة، وبعثيا، مستجدا فخاطب صدام قائلا: أبوعدي. فرد عليه صدام بغضب: لسنا أبوعدي. فقال له: رفيق صدام. فرد عليه بضيق: لسنا في اجتماع حزبي لتناديني بـ”رفيق” فاحتار رمضان وقال له: أستاذ صدام. فرد عليه: أنا لست أستاذا. وازداد ارتباكه وحيرته، وهنا بادره محمد سعيد الصحاف قائلا: قل السيد النائب، فقال رمضان: سيادة النائب. وهنا رد صدام بابتسامة خفية: تفضل.

اللقاء الأخير

في شتاء عام 1973، طلبني الصحاف لأمر هام، وحين ذهبت لأراه وجدت على مدخل مكتبه رجالا مدججين بالسلاح لا تستقر عيونهم على مكان، يراقبون كل شيء. ففهمت على الفور أن مسؤولا غير عادي يقوم بزيارتنا ذلك اليوم. دخلت عليه كعادتي فإذا بي وجها لوجه وعينا بعين مع صدام حسين. تراجعت وأردت أن أغلق الباب ورائي، لكنه دعاني إلى الدخول.

وأنا في طريقي إليه كنت أفكر بالصيغة التي أسلم بها عليه. هل أناديه أبوعدي؟ قد لا يحب أن أظهر أمام الصحاف تلك الألفة التي كانت بيننا. هل أناديه السيد النائب؟ قد يظنني أنافقه. هل أنادي أستاذ صدام؟ ربما سيظن أنني أتهرب من مناداته بـ"سيدي" ترفعا وكبرياء؟ كل هذا دار في رأسي في تلك الثواني القليلة وأنا في طريقي من باب مكتب الصحاف إلى حيث صدام يقف ويمد يده استعدادا للمصافحة.

ألهمني الله أن أسلم عليه بصيغة وسط لا تغضبه ولا تحرجني. قلت: السلام عليكم. فصافحني وجلس وجلست.

راح يسألني عن الحال والعمل والأولاد والأهل في تكريت. كان يحادثني وعيناه تدوران يمينا وشمالا. وكلما التقتا بعينيّ يبعدهما بسرعة. لقد كانت دقائق ثقيلة مملة طويلة. نهضت واستأذنت بالانصراف بحجة أنني لا أريد أن أشغله أكثر، وقد يكون لديه حديث خاص مع الصحاف، وخرجت.

كنت في غاية الارتباك. فقد أحسست بما لا يقبل الشك أنه لا يطيقني ولا يريد رؤيتي. ثم تداعت في نفسي ذكريات الماضي كلها. أيام الشقاوة والجوع والفراغ والشقاء. وتأكدت من أنه لا يريد أن يلتقي بواحد من رفاق طفولته يذكره بحكاياته الكثيرة التي لا تليق بمن أصبح ثاني رجل في الدولة، ويخطط ليصبح الأول والوحيد.

في تلك الساعة بالذات قررت أن أرحل عن العراق، بأي ثمن وعن أي طريق. وهكذا كان.