في العام 1957 كان صدام حسين وابن خاله عدنان قد سبقاني إلى ثانوية الكرخ الواقعة إلى جانب جسر السراي الذي سمّي فيما بعد بجسر الشهداء، وكان خيرالله طلفاح مديرا لدار المعلمين الابتدائية في أبوغريب ويسكن في الجعيفر. ولأنني من دون أقارب في العاصمة فقد سكنت في فندق التيسير القريب من الثانوية.
في اليوم التالي لوصولي إلى بغداد أخذني خيرالله طلفاح إلى مدير ثانوية الكرخ، يونس محمد أمين، وتوسط لي، فقبلت ونسبت لشعبة الخامس (أ) أدبي الشهير بقيادة التظاهرات الطلابية، حيث عدنان خيرالله وسامي مهدي والقاص الراحل موفق خضر ومثنى حمدان العزاوي الذي قتل في الهجوم على وزارة الدفاع في انقلاب 1963، وآخرون، أما صدام فكان في الصف الرابع - علمي في الثانوية نفسها.
وأذكر أنني في عام 1957 أكملت كتابة ديوان شعري صغير باسم “في سبيل الوطن”. ولأنني لم أكن أملك ثمن طباعة الديوان فقد تطوع خيرالله طلفاح وعبر معي بزورق من الجعيفر إلى سوق السراي ليكفلني عند صاحب مطبعة أسعد، على أن أسدد ثمن الطباعة من عوائد المباع.
وبهدف الترويج للديوان كان عليّ أن أزور الصحف لإهداء نسخ منه للمحررين المسؤولين عن الصفحات الثقافية فيها.
رافقني صدام إلى جريدة العمل التي يصدرها رئيس الوزراء السابق الدكتور فاضل الجمالي رئيس حزب العمل. دخلت على الصحافي محمود الجندي الذي كنت أتعرف إليه لأول مرة، وعرضت عليه النسخة ورجوته الكتابة عن الديوان. لكنه نهض ودخل غرفة مجاورة وعاد ليطلب مني مقابلة (الدكتور). مكث صدام في غرفة محمود. وحين دخلت وجدت فاضل الجمالي مبتسما وفي يده الديوان، ويمازحني قائلا “يا حرامي”. خفت وخجلت من هذه التهمة. فبادرني قائلا: كيف تثبت لي أنك كاتب هذا الشعر؟ هدأت قليلا، وطلبت منه أن يسألني عن أيّ قصيدة من قصائد الديوان، بحرها، موضوعها، مناسبتها – مثلا – لأثبت له أنني كاتب هذا الديوان.
قال: لا، أريدك أن تكتب بيتين عن جريدة العمل. وأعطاني ورقة وقلما. هممت بالكتابة، لكنني قلت له إن الشاعر المحترم يا دكتور لا يكتب شعره حسب الطلب، فهذا ما كان يفعله المتكسبون في العصر الجاهلي فابتسم وصدّق أنني صاحب هذا الديوان، وتمنى لي التوفيق، ونادى محمود الجندي وطلب منه الاهتمام بالكتاب.
كان صدام قد أحس بالملل والقلق بعد أن طالت جلستي في مكتب الدكتور. ونحن هابطان على السلم الضيق المظلم في طريقنا إلى شارع المتنبي سألته: هل تعلم من هو الدكتور الذي قابلته؟
قال: لا، من؟
قلت: هو الدكتور فاضل الجمالي.
سألني: كيف كان معك؟
قلت: كان لطيفا وراقيا وكريما جدا. أخبرته بحكاية الاختبار الذي خضته.
فجأة توقف وقال:
تعال لنعود إليه لأطلب منه أن يقبلني في حزبه.
ضحكت وقلت، ولماذا تريد الانضمام إلى حزبه؟
قال: لأن في إمكانه أن يساعدني ويأمر بتعييني في الأمن.
ضحكت من الفكرة، وواصلت سيري في شارع المتنبي وهو يتبعني ويلح عليّ.
اغتيال سعدون الناصري
في منتصف تموز 1958 كنت في بغداد حين حدثت الثورة، ورأيت حملة إسقاط تمثال “مود” القائد البريطاني الذي احتل بغداد وهزم العثمانيين، والمظاهرات الصاخبة التي عمت بغداد تأييدا للثورة.
زرت خيرالله طلفاح في منزله ورأيته متحمسا في ثنائه على بعض قادة الثورة. لكن صدام لم يخبرني بأنه عازم على المجيء إلى تكريت خلال عطلة الصيف.
بعدها بشهرين تلقيت رسالة سارة مفاجئة من ناشر في بغداد اسمه خالد العاني يعرض عليّ فيها إعادة طباعة الديوان، للاستفادة من أمر صادر من وزارة المعارف لجميع إدارات المدارس يوصي باقتنائه.
وفي الأيام التي كنت أرتب فيها أموري للسفر إلى بغداد فاجأني صدام بزيارة في تكريت، وأبلغني أنه وصل تواً من بغداد في زيارة شوق لأهله، ولن يمكث طويلا. فاتفقنا على أن نسافر معا إلى العاصمة. كان الوقت أول ساعات المساء. طلب منّي مرافقته في جولة في المدينة، نسهر بعدها كعادتنا القديمة في إحدى المقاهي. قمنا بجولة ممتعة على مقاهي تكريت كلها، ثم استقر بنا المطاف في مقهى تقع على الطريق العام المعبد الوحيد في تكريت الذي يربط بغداد بالموصل والشهير باسم “المبلط” فهب صاحب المقهى “عبد”، وهو من قرية العوجا ومعروف بأنه شيوعي، ليستقبل صدام بالأحضان.
كان شائعا عن تلك المقهى أنها مقهى الشيوعيين، وأن أغلب روادها الدائمين من الشيوعيين وأبناء العوجا، وأشهرُهم نائب الضابط المتقاعد في القوة الجوية الحاج سعدون الناصري، وكان يقال إنه من قادة التنظيم الشيوعي في تكريت. نهض بحماسة أهل العوجا واحتضن صدام بحرارة، وأصر على أن نشاركه الطاولة ونُمضي معه السهرة.
في تلك الجلسة سأل صدام سعدون إن كان يحمل مالا، فبادر سعدون وأخرج كيس نقوده، فاختار صدام منها دينارين فقط على مرأى ومسمع من الجميع. غادرنا المقهى في حوالي العاشرة ليلا، وبقي سعدون يكمل السهرة. ورحنا، صدام وأنا، نتجول في أزقة تكريت.
وهنا ينبغي إيضاح شيء مهم في هذا الخصوص. إن الأزقة التي تؤدي إلى دارنا ودار ليلى طلفاح (خالة صدام) والتي كان ينوي المبيت فيها تلك الليلة، كانت ضيقة جدا ومظلمة تماما. وصلتُ إلى دارنا أولا، وودّعني وأكمل سيره إلى منزل خالته.
وفي الصباح الباكر صحوت على صوت والدتي وهي ترتجف من الخوف وتسألني: ماذا فعلت؟ وتخبرني بأن الشرطة في الباب يسألون عني. نزلت على عجل، فوجدت شرطيين أخذاني معهما إلى مركز الشرطة، وكل ما قالاه لي في الطريق هو أن الحاج سعدون قُتل وأنني الشاهد الوحيد. ثم علمت بأن سعدون نطق باسم صدام قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم تنفع شهادتي أحدا، لا السلطة ولا الشيوعيين ولا صدام حسين. فالذي رأيته ورويته عن السهرة وعن الدينارين اللذين استلفهما صدام من سعدون، وتأكيدي أنني دخلت منزلنا أولا ثم واصل هو سيره، لم ينفع في نفي التهمة عنه أو تأكيدها. وألقي القبض على صدام في اليوم نفسه، وتم ترحيله إلى بغداد بعد يومين. ثم علمت بأن خيرالله ولطيف طلفاح وعدنان قد ألقي القبض عليهم أيضا وأودعوا موقف السراي.
كانت هناك قناعة لدى الكثيرين من التكارتة بأن صدام هو القاتل. وعلمت بعد ذلك بمدة طويلة، من أحد أفراد العائلة أن القتيل كان قد رفع مذكرة حزبية يلتمس فيها طرد خيرالله طلفاح من مديرية المعارف، باعتباره أحد الرجعيين أعداء الثورة والزعيم. وكانت ثورة تموز قد عينت خيرالله مديرا لمعارف لواء بغـداد (تربية محافظة بغداد) بعد توحيد مديريتي معارف الكرخ والرصافة، ولم يمكث في الوظيفة سوى شهرين أو أقل، أحيل بعدهما على التقاعد. وتمكن خيرالله من الحصول من أحد أقاربه المنتمين إلى التنظيم الشيوعي في تكريت على مضمون المذكرة التي رفعها ابن عمومته سعدون. وفي نظر خيرالله والعشيرة أن الثأر أمر لازم، حتى لو كان من ابن عم، ومن العشيرة نفسها.
ولقناعة الشيوعيين بهوية القاتل، ولعدم وجود شاهد عيان نافع واحد أو دليل يثبت الجريمة على صدام، لجأوا إلى تكليف اثنين من التكارتة المتعاطفين معهم للإدلاء بالشهادة زورا في المحكمة، رغم أنهما لم يشاهدا شيئا على الإطلاق. وأذكر منهما واحدا يقال له “ملوكي” ومعروف أنه شاهد الزور يناقض نفسه حين يخوض في التفاصيل الدقيقة، خصوصا إذا كان في مواجهة محامٍ شاطر يتقن الإيقاع به.
وهكذا كان، وثبت تناقض الشاهدين أمام المحكمة بفعل هجوم هيئة الدفاع الضخمة التي كان يرأسها المحامي القومي الشهير عبدالمحسن الدوري. وأذكر أن صدام هتف في المحكمة عند النطق بالحكم ببراءته: “ظهر الحق وزهق الباطل”.
لا أعلم ما إذا كانت محكمة الشعب قد طلبت إحالة القضية إليها بعد ذلك. لكن الذي أذكره أن العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة الخاصة أشاد بـ”الشهيد” سعدون، وهاجم القاتل المجرم صدام التكريتي. لقد كانت هذه الشتيمة مفتاح الحظ لصدام. فقد أبرزت اسمه كثيرا، وجعلت حزب البعث يستدل على مقاتل ينفع في مواجهة أعداء الحزب، فسعى إلى ضمه إليه في محاولة اغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم الفاشلة في العام 1959.
دية رمزية
وتكشف شهادة الملازم فالح الناصري (شقيق المغدور الحاج سعدون) في محكمة الشعب، المنشورة ضمن الجزء الخامس من محاضر جلسات المحكمة، في الصفحات 407 - 410 جانبا من الخلافات بين ذوي القتيل سعدون الناصري، وبين خيرالله طلفاح وابن شقيقته صدام، حيث يقول فالح في شهادته، إن شقيقه الحاج سعدون التكريتي كان من المناوئين للمرشح الحكومي لمجلس النواب في العهد الملكي، عن مدينة تكريت، علاء الدين الوسواسي المحسوب على خليل كنة أحد مساعدي نوري السعيد.
وخلال آخر انتخابات نيابية جرت قبل ثورة 14 يوليو كان خيرالله طلفاح يدعو إلى انتخاب الوسواسي وحصلت بينه وبين قريبه سعدون الناصري مشادة كلامية وسوء تفاهم وشجار.
ويمضي فالح الناصري في شهادته أمام محكمة الشعب، فيقول: بعد 14 يوليو عيّن خيرالله مديرا لمعارف لواء بغداد، وبعد فترة قصيرة نقل إلى التفتيش فاعتقد بأن سعدون الناصري وعلي حسن الرشيد معاون دار المعلمين الابتدائية في أبوغريب، قدما إخبارية للحزب الشيوعي عن علاقة خيرالله القديمة بالوسواسي، فأرسل يوم 14 تشرين الأول 1958 ابن أخته الذي تبرأ منه أعمامه براءة رسمية، ورباه خاله منذ كان طفلاً بعد وفاة والده فضرب أخي وقتله، وأحب أن أذكر أن جميع المحامين لم يقبلوا بالدفاع عن خيرالله طلفاح، إلا عبدالرحيم الراوي وهزاع عمر التكريتي وعبدالمحسن الدوري وعبدالوهاب الخطيب.
ويسأل رئيس المحكمة العقيد فاضل المهداوي، الشاهد الملازم فالح الناصري، من الذي عين طلفاح في منصب مدير المعارف، فيجيب الناصري إنه وزير المعارف (وكان جابر عمر)، ويتدخل المدعي العام العقيد الركن ماجد محمد أمين ويقدم مرافعة بهذا الخصوص، يقول فيها: بالنظر لهذه المعلومات كما حصلت على معلومات أخرى تربط بين هذه الحادثة، فإن هذه الإخبارية التي أشار إليها الشاهد وصلت إلى الأمن وعن طريق الأمن وصلت إلى خيرالله، وقام بالعمل الشنيع، وهو الذي أرسل الشخص وقتل الشهيد (انتهت الشهادة).
وبعد سنوات، وتحديدا في عام 1974، دعا الرئيس أحمد حسن البكر، إلى مجلس عشائري حضره نائبه صدام، وخاله خيرالله ونجله عدنان وزوج أمه إبراهيم الحسن وأولاده برزان ووطبان وسبعاوي وأولاد عمومة صدام، كما حضره أشقاء سعدون الناصري وولداه، وسويت قضية مقتل الحاج سعدون عن طريق الفصل العشائري، وقيل إن صدام دفع “دية” رمزية كما تقتضي التقاليد العشائرية.
كاكا عزيز
ونحن في مرحلة الدراسة المتوسطة نُقل إلى ثانويتنا في تكريت مدرس كردي اسمه كاكا عزيز، ومعه شقيقه بهزاد وهو في مثل أعمارنا.
كان عزيز شابا وسيما ولكن شديد البأس، متوسط القامة يتمتع بجسد قوي. وكان من عادته، لإظهار حزمه وشدته، أن يختار أحدنا قبل أن يباشر درسه، فينهال عليه ضربا، حتى لو لم يكن هناك سبب كافٍ للعقاب.
وفي أحد الأيام ضحك صدام وسمعه عزيز، فسارع إليه ولطمه على وجهه لطمتين بكفه، وعلى ظهره لسعتين من عصا يحملها معه باستمرار. تحمل صدام الضربات بصمت. وسار الدرس بعد ذلك بهدوء، إلى أن دق جرس الاستراحة، فتجمعنا ساخرين حول صدام، هازئين منه ومن صمته على ما ناله من المدرس عزيز. لكنه ظل صامتا ولم يجب بشيء.
وعلم مدير الثانوية، وهو من أهالي تكريت ويعرف أهلها خير المعرفة، فخاف من العاقبة. وشرح للمدرس عزيز خطورة أهل العوجا، ورجاه أن يتدارك الأمر بسرعة. وبالفعل استقدم المدير صدام حسين ولاطفـه وحاول ترطيب الأجواء، ورجاه أن يعتذر للمدرس، حتى وهو غير مذنب، إكراما للمدير، وكي ينتهي الموضوع. وبالفعل أقبل صدام على عزيز معتذرا بأدب جم، وظن الجميع أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد.
كان عزيز يسكن مع أخيه في منزل متواضع يقع على آخر أطراف المدينة، في مواجهة الثانوية. وكانت المنطقة غير آهلة ومظلمة في الليل.
وفي اليوم التالي علمنا أن أحدا جاء راكبا على فرس وطرق باب منزل كاكا عزيز. وحين فتح أخوه بهزاد الباب أطلق الطارق عليه عيارا ناريا وهرب. وعلمنا أيضا أن الرصاصة أصابته في ساقه. حمل كاكا عزيز أخاه إلى المستوصف لإسعافه، ثم ذهب إلى الشرطة واتهم صدام بالجريمة. وحين وصل أفراد الشرطة إلى منزل ليلى الطلفاح، حيث كان صدام يقيم في تلك الأيام، لم يجدوا الفرس ولا البندقية، وكان صدام نائما في سلام. كان المنزل يقع، كما أسلفت، في حي قديم ذي أزقة ضيقة لا تتسع لفرس بأي حال من الأحوال، فسُجلت القضية ضد مجهول وحزم كاكا عزيز حقائبه ورحل.