منوعات

الخميس - 24 نوفمبر 2022 - الساعة 03:31 ص بتوقيت اليمن ،،،

العرب


كان طهي الطعام أكثر من مجرد تغيير في نمط حياة أسلافنا نحن البشر، فقد ساعد في تغذية تطوّرنا، ومنحنا أدمغة أكبر، وأصبح بعد ذلك محور طقوس الولائم التي شكّلت المجتمعات والبيئات المختلفة.

ويشير البعض إلى أنك إذا كنت تطهو الآن وجبة لـ”عيد الشكر”، كما يجري هذه الأيام في الولايات المتحدة، أو كنت تحضر وليمة في أي مكان حول العالم، فأنت جزء من تاريخ بشري طويل أقدم من سلالتنا الحالية. حيث يقدر العلماء أن أبناء عمومتنا من البشر الأوائل ربما كانوا يستخدمون النار لطهي طعامهم منذ ما يقرب من مليوني عام، قبل وقت طويل من ظهور الإنسان العاقل.


ووجدت دراسة حديثة ما يمكن أن يكون أقدم دليل معروف على هذا الطهي البدائي: بقايا عشاء من سمك “الشبوط” المطهو جيدا قبل 780 ألف سنة، وفقاً لما أفادت به مادي بوراكوف في الأسوشيتيد برس.

السمكة التي تحدّثنا من الماضي

يقول مات سبونهايمر، عالم الأنثروبولوجيا بجامعة كولورادو في بولدر، الذي درس النظم الغذائية لأسلاف البشر الأوائل “بدت قصة التطور البشري على أنها قصّة ما نأكله”.

وتستند الدراسة الجديدة التي نُشرت في مجلة “نيتشر إيكولوجي أند إيفولوشن” وقام بإعدادها علماء من معاهد إسرائيلية وبريطانية وألمانية، إلى بقايا عثر عليها في موقع جسر بنات يعقوب الأثري على نهر الأردن على بعد 14 كيلومترا من بحيرة طبريا.

وتوضح إيريت زوهار من جامعة تل أبيب، الباحثة بمتحف شتاينهاردت للتاريخ الطبيعي، أنّ الدراسة التفصيلية لأسنان الأسماك المكتشفة في الموقع كشفت أنّ بعض أسلافنا الأوائل كانوا يقومون بطهي الأسماك، ويتناولون أنواعًا كثيرة منها، وكان يتم اصطيادها في المياه العذبة، بحسب زوهار، أمينة مجموعات بيت مارغولين البيولوجية في كلية أورانيم الأكاديمية، التي تضيف أن القطع الأثرية التي تم العثور عليها في المنطقة تشير إلى أنها كانت موطنا لمجتمع من الإنسان منتصب القامة “الهومو إريكتوس”، وهو نوع منقرض من البشر الأوائل.

وتقول نعمة غورين – إنبار، عالمة الآثار في الجامعة العبرية بالقدس التي قادت عمليات التنقيب، إنه على مدى سنوات من الحفر في الموقع، فحص الباحثون بقايا غلاف أسنان السمكة التي عُثر عليها بكميات كبيرة في الموقع. وكان الكثير منها من نوعين معينين من “الشبّوط”، وانتشرت حول مناطق معينة في الموقع، حيث وجد الباحثون أيضا علامات على إشعال النار.

وكشف الاختبار أن الأسنان تعرضت لدرجات حرارة مرتفعة ولكن ليس بدرجة كبيرة. وتبيّن زوهار أن هذا يشير إلى أن الأسماك كانت تُطهى ببطء على نار هادئة، بدلا من رميها مباشرة على النار.

ماذا أكل أجدادنا؟
ورأى بعض العلماء أن هناك أيضاً احتمالا بأن الطبخ لم يكن مقتصرا على السمك وحده، بل قد يكون شمل حيوانات أخرى ونباتات مختلفة. واستنتجوا أن السمكة التي تم العثور عليها، والتي بلغ طولها مترين، عاشت في محيط بحيرة الحولة التي كانت موجودة في ذلك المكان، حتى قامت إسرائيل بتجفيفها عام 1950 بذريعة مكافحة الملاريا عن طريق القضاء على البعوض. وتبين من أدلة أثرية أخرى عثر عليها في الموقع أن مجموعات من الصيادين أقامت في المنطقة على مدى عشرات الآلاف من السنين.

ويعتقد الفريق البحثي أن مواقع مصادر المياه العذبة تساعد في تتبع آثار الإنسان القديم في ترحاله من أفريقيا إلى بلاد الشام وأماكن أبعد.

ونفت زوهار العثور على بقايا بشرية في الموقع المذكور، لكن الأدوات الحجرية تتطابق مع تلك التي اكتُشفت في مواقع الإنسان المنتصب في جميع أنحاء أفريقيا. وتابعت قولها “إنّ البحيرة كانت ضحلة، وربما كان يسهل اصطياد سمكة كبيرة مثل هذه منها”.

كل تلك الأدلة مجتمعة، تشير حسب استنتاج المؤلفين إلى أن أبناء عمومة البشر هؤلاء قد استخدموا النار للطهي منذ أكثر من ثلاثة أرباع مليون سنة. وهذا أقدم بكثير من الدليل الأقدم التالي الذي أظهر أن البشر في العصر الحجري أكلوا الأطعمة المتفحمة في جنوب أفريقيا.

ويعتقد الباحثون المشاركون في الدراسة، مثل العديد من زملائهم، أن الطهي بدأ قبل ذلك بوقت طويل، على الرغم من صعوبة الوصول إلى أدلة مادية.

وقال يسرائيل هيرشكوفيتز من جامعة تل أبيب، وهو أحد الباحثين المشاركين في الدراسة “أنا متأكد من أننا سنشهد في المستقبل القريب الإبلاغ عن حالة أبكر”. ويرجع ذلك جزئيا إلى أن تسخير النار للحصول على الطعام كان خطوة أساسية للتطور البشري.

وأوضح ديفيد براون، عالم الآثار بجامعة جورج واشنطن الذي لم يشارك في الدراسة، أن طهي الطعام يسهّل على الجسم الهضم والحصول على العناصر الغذائية. لذلك، عندما اكتشف البشر الأوائل كيفية الطهي، حصلوا على المزيد من الطاقة مما مكنهم من تغذية عقول أكبر.

وحسب تقديرات العلماء، واستنادا إلى كيفية تطور أدمغة أسلاف البشر وأجسادهم، فإن مهارات الطهي ظهرت منذ ما يقرب من مليوني عام. وقال براون “لو كان البشر البدائيون يأكلون الطعام نيئا، لكان من الصعب أن يؤدي ذلك إلى نمو قاماتهم”.

تطوّر الحسّ الاجتماعي

كانت تلك الوجبات المطبوخة الأولى بعيدة كل البعد عن عشاء الديك الرومي اليوم. وفي السنوات العديدة الفاصلة بين ذلك التاريخ وعصرنا الحالي، بدأ البشر يأكلون لا فقط من أجل الطاقة بل أيضا في علاقة بالحس الاجتماعي.

في دراسة أجريت سنة 2010، وصف الباحثون أول دليل على وجبة مُعدّة خصيصا جمعت الناس معا في مناسبة قبل 12 ألف عام في كهف في فلسطين.

وتقول ناتالي مونرو، عالمة الأنثروبولوجيا بجامعة كونيتيكت التي قادت الدراسة، إن الكهف الذي كان بمثابة موقع للدفن، تضمّن رفاة امرأة يُعتقد أنها كانت كاهنة في مجتمعها. ويبدو أن أهلها أقاموا وليمة لتكريمها بعد وفاتها. وعثرت مونرو وفريقها على أعداد كبيرة من بقايا الحيوانات في الموقع، بما في ذلك ما يكفي من السلاحف والماشية البرية لاحتفال كبير.

وقالت مونرو إن هذا “العيد الأول” جاء من نقطة تحول مهمة أخرى في تاريخ البشرية، حيث بدأ الصيادون وجامعو الثمار في الاستقرار في مناطق معيشية دائمة. وربما رأت في التجمع لتناول وجبات خاصة وسيلة لبناء المجتمع وتهدئة التوترات الآن بعد أن أصبح الناس يتعايشون مع بعضهم البعض.

وعلى الرغم من أن العيد لم يعد ينطوي على مضغ لحم السلحفاة في كهوف الدفن، قالت مونرو إنها لا تزال ترى الكثير من الأدوار نفسها تحدث في تجمعاتنا الحديثة: تبادل المعلومات وإقامة الروابط والتنافس على المكانة. وتابعت مونرو “هذا شيء إنساني جوهري. وتعدّ رؤية أول دليل على ذلك أمرا مثيرا”.

أنظمة سلوكية جديدة

التحول في نشاطات البشر نحو تناول وجبات طعام مطبوخة، يعني أنّهم كانوا يضعون طاقة أدنى للقيام بعمل مكثف بحثًا عن الطعام الطازج والنيء وهضمه، الأمر الذي قد يوفّر لهم المزيد من الوقت لتطوير أنظمة اجتماعية وسلوكية جديدة. وفقاً لتحليل بيثان لينسكوت، عالم الكيمياء الجيولوجية الأثرية في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة.

ويرى لينسكوت أنّ النظام الغذائي كان له أبعد الأثر على تطور جنسنا البشري. ويُعتقد أنّ استهلاك اللحوم تحديدًا ساهم في زيادة الحجم النسبي لدماغ أسلافنا من البشر الأوائل، لكن “البكتيريا المسبّبة للأمراض تجعل استهلاك اللحوم غير المطهية عملا محفوفًا بالمخاطر” على حد قوله.

فالطبخ يقتل البكتيريا، ويزيد من القيمة النشطة للحوم، وبالتالي يشكّل مصدر غذاء جديد وموثوق به للبشر الأوائل. لذا فإن فهم متى حدث ذلك، له أهمية كبرى، لأنّه قد يساعد على تفسير سبب تطور أسلافنا من البشر الأوائل على هذا النحو.

كانت زوهار تعمل قبل سنوات على منطقة جسر بنات يعقوب ذاتها، ونشرت قبل 16 عاما بحثا يكشف عن أنّ طبقات الرواسب في المكان الذي عُثر فيه على الأدوات الحجرية، تثبت وجود الإنسان.

دعمت ذلك أعمال أخرى للمؤلفة المشاركة في الدراسة نيرا ألبرسون أفيل، الأستاذة بقسم الدراسات والآثار الإسرائيلية في جامعة بار إيلان، حول آثار المواقد، أثبتت أنّ بعضها يُعتبر أحد أقدم المواقد خارج أفريقيا.

الجهد الذي بذله الباحثون انصبّ على معرفة ما إذا كان سكان الموقع في عصور ما قبل التاريخ قد قاموا بالفعل بطهي الأسماك هناك ولم يتخلصوا من البقايا فقط بالنار، لذلك عمد الباحثون إلى تحديد التغيرات في حجم بلورات مينا الأسنان، التي تستجيب على نحو مختلف للتغيرات في درجة الحرارة.

وحلّلت زوهار وينس ناجوركا، مدير مختبر الأشعة السينية في متحف التاريخ الطبيعي بلندن 56 سنًا تنتمي إلى أسماك ما قبل التاريخ وأسماك المياه العذبة، ما سمح لهم بتحديد التغيرات الناجمة عن الطهي على درجات حرارة منخفضة مقابل المرتفعة منها. وأسفرت النتائج عن أنه تم طهي الأسماك على درجات حرارة تتراوح بين 200 و500 درجة مئوية.

وتمكن الفريق أيضًا من تحديد إذا ما كانت الأسماك تُشكّل جزءا منتظما من النظام الغذائي، وأنها لم تكن مجرد طبق موسمي للقدماء، أو أنهم كانوا يلجؤون إلى تناوله عندما تشحّ مصادر الطعام الأخرى، وذلك من خلال النظر في التركيب الكيميائي للأكسجين ونظائر الكربون في مينا الأسنان من أجل تحديد الموسم الذي ماتت فيه الأسماك. وتوصّلت النتائج أخيرا إلى أنه تمّ طهي تلك الأسماء وتناولها على مدار السنة، أي أن ذلك كان عادة اجتماعية متواصلة بكل ما يرافقها من مظاهر.