كتابات وآراء


الثلاثاء - 19 أغسطس 2025 - الساعة 08:58 م

كُتب بواسطة : عبدالناصر المودع - ارشيف الكاتب



في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، اعتمدت حكومة الجمهورية العربية اليمنية سياسات اقتصادية تحت شعار "تنظيم الاستيراد وترشيده وتشجيع المنتجات المحلية". لكن هذه السياسات تحولت إلى ضربة قاصمة للنشاط الاقتصادي، وفتحت الباب واسعًا للفساد، حيث نشأت طبقة تجارية طفيلية ممن حصلوا على رخص الاستيراد، فيما تحولت هذه الرخص إلى سلعة يتم بيعها من قبل النافذين.
إلى جانب ذلك، ازدهر التهريب ليتحول إلى اقتصاد موازٍ بحجم كبير، فيما لم تحقق تلك السياسات أي نجاح حقيقي؛ فالمنتج المحلي لم يتطور ليحل محل المستورد، واستيراد ما سُمّي بالسلع الكمالية استمر رغم القيود والمنع الجزئي، والعملة المحلية استمرت في التدهور. وبعد أكثر من 10 سنوات من الفوضى والفساد، جرى التخلي عن تلك السياسات والاتجاه نحو تحرير الاستيراد.

خلال سنوات الحرب، قرر البنك المركزي في عدن بيع الدولار بسعر ثابت ومنخفض لمستوردي بعض السلع الأساسية، بحجة حماية العملة المحلية وتوفير سلع رخيصة للمواطنين. لكن النتيجة كانت مغايرة: الريال واصل التدهور، والأسعار ظلت تُحتسب وفق السعر الفعلي للدولار في السوق. وبعد فترة، أُلغي القرار وسط شبهات فساد وسوء إدارة، ولكن بعدما استُنزفت خزينة البنك من العملة الصعبة، ومعظمها كانت وديعة سعودية.

مؤخرًا، أعلنت الحكومة في عدن إنشاء "اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات"، لتتولى منح رخص استيراد سلع محددة وتوفير العملة الصعبة لها. لكن هذه الخطوة ليست سوى إعادة إنتاج لسياسات فاشلة جُرّبت من قبل، مع فارق أن الدولة اليوم مفككة، ومنافذها مفتوحة بلا رقابة، وسلطة الحكومة واللجنة تكاد تكون معدومة. ففي الجمهورية العربية اليمنية سابقًا، كانت المنافذ تحت سلطة مركزية واحدة والبلاد أكثر تماسكًا، ومع ذلك فشلت التجربة.

أما اليوم، فحكومة عدن وبنكها المركزي لا يملكان سلطة فعلية حتى على منافذ مدينة عدن نفسها، فضلًا عن المنافذ الأخرى التي تخضع كل منها لسلطة محلية ومليشيات خاصة تتحكم في الواردات والرسوم والعائدات. كما أن احتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي شحيح للغاية، لا يكفي لتغطية الواردات لأكثر من شهر، وهو وضع أسوأ مما كان عليه عند تجربة بيع الدولار بسعر ثابت قبل سنوات. وحتى لو حصل البنك على وديعة جديدة لن تتجاوز 500 مليون دولار في أحسن الأحوال، فلن تغطي سوى واردات اليمن من السلع والخدمات لمدة 15 يومًا فقط.

رافق تشكيل اللجنة قرارات بإغلاق محلات صرافة وتقييد التحويلات الخارجية ومنع التداول بالعملات الأجنبية، وهي إجراءات ثبت في كل الدول أنها تخلق سوقًا سوداء ومضاربات كبيرة، وطرقًا غير رسمية لتداول العملات والتحويلات. هذا ما حدث في دول صلبة شمولية كانت تسيطر بالكامل على أراضيها مثل الاتحاد السوفيتي سابقًا، أو إيران، أو العراق خلال حكم صدام حسين.

في الواقع، ستتحول لجنة تنظيم الواردات إلى أداة للعبث بالاقتصاد وصناعة بيئة خصبة للفساد، فهي عمليا عاجزة عن تلبية احتياجات الاستيراد بسبب شح العملات الصعبة. ولهذا فإنها ستمنح رخص الاستيراد بشكل انتقائي لبعض التجار وحرمان آخرين، أو أنها ستوزع حصص متساوي على الجميع وهو إجراء غير واقعي، نظرًا لتفاوت إمكانيات وحجم نشاط التجار. النتيجة الحتمية: مزيد من الفوضى والفساد دون أي تحسن في الاقتصاد أو المعيشة أو سعر الصرف.

أسباب تدهور الريال ليست المضاربة بالعملة كما يُروَّج، بل العجز المزمن في ميزان المدفوعات، أي أن ما يخرج من البلاد من عملات أجنبية وذهب يفوق بكثير ما يدخل إليها. ومنذ اندلاع الحرب، واليمن يشهد تفاقم هذا العجز، ما يجعل تراجع قيمة العملة أمرًا حتميًا، ولا يمكن وقفه إلا إذا أُلغي هذا العجز، وهو أمر غير وارد في المدى القريب أو المتوسط.

العجز الأكبر في ميزان المدفوعات ناتج عن الميزان التجاري، والذي لن تستطيع لجنة تنظيم الواردات تقليصه، لأن حجم الواردات اليمنية أصلاً منخفض قياسًا بعدد السكان واحتياجاتهم. فاليمن يستورد سنويًا، حسب بعض التقديرات، ما قيمته 12 مليار دولار من السلع، مقابل 30 مليارًا للأردن (عدد سكانه 11 مليونًا)، و86 مليارًا لمصر (عدد سكانها يقارب ثلاثة أضعاف اليمن). وهذا يعني أن نصيب الفرد في اليمن من السلع المستوردة لا يتجاوز 350 دولارًا سنويًا، مقارنة بـ2600 دولار للأردني و800 دولار للمصري، رغم أن لدى الأردن ومصر إنتاجًا محليًا أكبر بكثير.

ولأن أكثر من 90% من احتياجات اليمن من الغذاء والسلع المصنعة تأتي من الخارج، فإن تقليص الواردات بشكل أكبر أمر شبه مستحيل؛ لأنه سيخلق أزمة في السلع الأساسية. أما السلع الكمالية التي يمكن الاستغناء عنها، فلا تمثل سوى 10% من قيمة الواردات، ومن المستحيل تقييدها أو منعها في بلد مفكك مثل اليمن.

الخلاصة: الإجراءات التي أعلنتها الحكومة اليمنية لن توقف تدهور العملة ولن تحل الأزمات الاقتصادية، بل ستفاقمها عبر زيادة الفساد وتعقيد حركة التجارة وخلق سوق سوداء للعملات الأجنبية. وفي أحسن الأحوال، قد تمنح وديعة خارجية لحظة تخدير موقته قبل أن تعود الأزمات إلى وضع أسوأ مما كانت.

التجارب في دول أكثر استقرارًا من اليمن، مثل لبنان وإيران، وأيضًا في مصر عامي 2022 و2024، أثبتت أن تقييد الاستيراد، ومنع تداول العملات الأجنبية يؤدي إلى تضخم مفرط وانهيار العملة المحلية.

والحل الأنسب لليمن هو ترك التجارة وتداول العملة تعمل وفق قوانين السوق دون تدخل من سلطة عاجزة وفاشلة، وفاسدة، لا تسيطر حتى على ميناء عدن أو مطارها.