كتابات وآراء


السبت - 10 سبتمبر 2022 - الساعة 12:04 ص

كُتب بواسطة : د. عيدروس نصر - ارشيف الكاتب



لقد نالت نظرية جورباتشوف عن "البريسترويكا" و"الجلاسنوست" رواجاً واسعاً على مستوى العالم وخصوصاً على مستوى العالم الغربي الذي كانت مراكزه السياسية والمخابراتية تتربص بالتجربة السوفييتية وتبحث عن أي وسيلة لتدميرها، ووجدت في أفكار جورباشوف مدخلاً ملائما لأهدافها، وحصل كتابه المعنون بـ"البريسترويكا" على أعلى مستوى مبيعات ربما على المستوى الدولي خلال السنوات الأولى التي تلت صدوره، وعملت المراكز الإعلامية الغربية على الترويج الواسع للكتاب والإشادة المبالغ فيها بجورباتشوف ونظريته ونظمت له الندوات والفعاليات النقاشية واستضافته أكبر وأشهر الجامعات والمراكز البحثية والقنوات الفضائية والوسائل الإعلامية الأمريكية والأوروبية الغربية.

لقد تركزت نظرية جورباتشوف عن "البريسترويكا" على تقليل الهيمنة المركزية على الاقتصاد السوفييتي ومنح بعض الاستقلالية للمؤسسات الاقتصادية السوفييتية العملاقة في تحديد وإنتاج وتسويق منتجاتها وتحمل نفقات الانتاج دون أي تدخل أو دعم من الدولة كما كان سائداً حتى ما قبل 1985م، كما سمحت هذه السياسات بمشاركة الاستثمار الأجنبي في إطار المؤسسات الانتاجية التي ظل القادة السوفييت هم أصحاب السلطة الأعلى فيها.

سيكون من الصعب في هذه العجالة استعراض مكامن القوة والضعف في سياسة إعادة البناء "الجورباتشوفية" بيد إنه لم يأت العام 1990 حتى كانت المؤسسات الاقتصادية السوفييتية العملاقة على وشك الإفلاس ودخلت الحياة الاقتصادية مرحلة من الركود والتدهور والتفكك والفوضى وسارت الأمور كما شاهدها الجميع باتجاه الانهيار الكامل لمنظومة الاتحاد والاستقلال التلقائي لجميع الجمهوريات السوفييتية دونما حرب ولا إعلان دستوري مباشر، وجاء صعود نجم بوريس إيلتسن الشعبوي والفوضوي المعروف ليغدو رئيساً لروسيا الاتحادية (عماد الاتحاد السوفييتي ومركز الثقل فيه) وحدها دون بقية الجمهويات التي صار لكل منها رئيسها وليجد جورباتشوف نفسه مرميا في العراء بلا دولة وبلا منصب ولا حتى لقب مكتفيا بالجوائز والألقاب التي نالها من المراكز والمؤسسات الأكاديمية في العالم الغربي التي لم تكن كلها لوجه الله.

لقد كُتب الكثير والكثير عن نظرية "البيريسترويكا" الخائبة وسيكتب عنها الكثير في المستقبل، نظراً لما أحدثته من زلزال مدوٍ ومدمر في نظام القطبين وسقوط القطب الشرقي وتدافع بلدان الاشتراكية الشرقية باتجاه "نعيم" الرأسمالية الذي أدخل معظمها في فوضى عارمة بعضها لم يتعافَ بعد من عواقبها، لكن أهم ما يمكن ملاحظته هنا بمناسبة الحديث عن جورباتشوف ودوره في تدمير الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي هو التالي:

* غياب الأداة السياسية التي يفترض أن تتولى التنظير والتقييم والمراقبة والمراجعة للإجراءات التي تتضمنها سياسة البريسترويكا، بل لقد اعتمد جورباتشوف في تسويق وتنفيذ سياساته على قلة من الكوادر والتكنوقراطيين بل والانتهازيين الذين لا يؤمنون بالأهداف التي جاءت هذه السياسة لتحقيقها، فضلا عن حقدهم الكامل على النهج الاشتراكي بعيوبه ومحاسنه، وولعهم الفائض بالنموذج الرأسمالي الغربي الذي ظل الإعلام الغربي يقدمه على إنه النموذج الأوجد الصالخ على الأرض، وعمد جورباتشوف وفريقه إلى تجاهل دور القيادة الحزبية التي تعود المجتمع في الجمهوريات السوفييتية على رقابتها الصارمة على مجمل مجريات الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية، بل لقد حول الحزب الشيوعي السوفييتي إلى مجرد ديكور سياسي لا قيمة له حتى افتقد القادة الحزبيين إلى أي حضور أو حظوة مجتمعية وانتهى الأمر بتفكيك الحزب وذوبانه واضمحلاله كلية من الحياة السياسية.

وفي جمهورية روسيا الاتحادية على وجه الخصوص جرى التعامل مع الحزب كعدو للديمقراطية خصوصا بعد "محاولة الانقلاب" المزعومة التي قيل إنها دبرت ضد جورباتشوف وديمقراطيته، والتي لم يتم الكشف لاحقا عن أي من تفاصيلها أو الاجراءات العقابية المتخذة بحق مدبريها.

* لم يكتفِ جورباتشوف وفريقه التكنوقراطي المشكوك في إخلاصه حتى لروسيا ولجورباتشوف نفسه، بتدمير أدارة التنفيد والتقييم والمراجعة، بل لقد جرى تغييب التقييم والمراجعة ولم يتم التوقف ولو لمرة واحدة لدراسة حصيلة السياسات التي جرى تنفيذها سواء على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي أو على صعيد السياسات المتعلقة بالاتحاد أو على صعيد السياسات الخارجية والعسكرية، وانبهر جورباتشوف وفريقه بمهرجانات الإشادة به وبكتابه، والاحتفاء بدمار الاتحاد وتجاهلوا العواقب المدمرة التي كانت تلوح في الأفق.

* أن أكبر خطيئة وقع فيها جورباتشوف وفريقه والتي عادت على كل شعوب الاتحاد السوفييتي بالدمار والخراب هي تجاهل التعدد القومي والعرقي في بنية الدولة الاتحادية، فلقد ظلت قضية التعدد القومي والإثني والديني عاملا مهما في بنية الدولة الاتحادية، ولقد حرص الإعلام الغربي المعادي للاتحاد وللاشتراكية عموما على تصوير علاقة روسيا الاتحادية مع شعوب الجمهوريات السوفييتية على إنها علاقة استعمارية، لكن برغم ما في تلك العلاقة من عيوب فإن روسيا هي من بنت وطورت معظم الجمهوريات الاتحادية الأوروبية والأسيوية على وجه الخصوص، وكان يمكن معالجة العيوب التي صاحبت تلك العلاقة من خلال الحفاظ على بنية الاتحاد ومنح مقدارٍ أكبر من الاستقلالية للجمهوريات الاتحادية دون الحاجة إلى الوصول إلى تفكيك الاتحاد نفسه، لكن انشغال جورباتشوف وفريقه البائس بحالة الترويج للبريسترويكا ووالتفاخر بالاحتفاء العالمي (الغربي) بها، قد ألهى القيادة السوفييتية حينها عن مخاطر تنامي النزعات القومية المعادية للسوفييت وبالأصح المعادية للروس |(Anti-Sovietism and Anti-Russiesm) التي جاء معظمها تحت تأثير الدعاية الغربية المكرسة على مدى قرابة نصف قرن مما سهل من عملية تفكك الاتحاد السوفييتي، تفككا تلقائيا دونما إعلان أو حتى اتفاق ينظم العلاقة بين شعوب الاتحاد السابق، ولتأتي ما سميت بـ"منظمة الدول المستقلة" كتسمية أنيقة لفشل قبيح عجز قادته عن الحيلولة دون الوصول إليه.

* لقد دفع الاحتفاء العالمي بجورباتشوف وكتابه، دفعه وفريقه إلى الابتهاج والتباهي بهذا الاحتفاء، وإهمال الدور التخريبي للشركاء الجدد الذين لم يدخلو إلى روسيا لمجرد الاستثمار ولا لمساعدة روسيا على النهوض، بطبيعة الحال، ولكن أدخلوا معهم سياسات التخريب والإرشاء والإفساد وشراء الذمم مستغلين حاجة معظم الكادر السوفييتي إلى أبسط وسائل المعيشة، فالمدير الروسي، أو السوفييتي الذي كان يتقاضى خمسة آلاف روبل، قبل البريسترويكا، وهم قلة، كان يشاركه ممثلٌ للشركة الرأسمالية الشريكة براتب شهري يفوق العشرين والثلاثين وأحيانا الخمسين ألف دولار، ومجرد هدية بقيمة خمسة آلاف دولار ستجعل الكادر السوفييتي اليائس من المستقبل يسلم مصير الشركة والمؤسسة للاعب الغربي الذي ينفذ أجندة تخريبية أعدتها المخابرات الغربية لتدمير الاتحاد السوفييتي واقتصاده وكل قدراته الفنية والاقتصادية وابنيته السياسية والعسكرية، وهذا ما جرى خلال أقل من عقد من انهيار الاتحاد وقيادة بوريس إلتسن لروسيا التي كانت تترنح كترنح رئيسها الذي ظل يقضي كل وقته ثملاً.

وختاما ملاحظتان:

* لا بد من الاعتراف أن الاتحاد السوفييتي ومعه كل البلدان الاشتراكية كانت تعاني من الاعتلالات البينة في معظم السياسات الاقتصادية والمدنية والسياسية (الداخلية) لكن جورباتشوف الذي زعم أنه قد جاء ليعيد هيكلة هذه المنظومة من خلال معالجة اعتلالاتها، قد قام بتدمير واحدة من أعظم إمبراطوريات القرن العشرين، وحينما كان يمكنه معالجة العلل والحفاظ على الجسم السياسي انصرف إلى البحث عن مجد شخصي لم يستطع الحفاظ عليه عقداً واحدا من الزمن، وذهبت كل التطلعات المشروعة لمئات الملاييين من المواطنين السوفييت ومواطني بلدان أوروبا الشرقية للتحرر من عيوب النظام الشمولي مع الحفاظ على منجزات الاشتراكية التي لا ينكرها إلا الجاحدون، ذهبت تلك التطلعات أدراج الرياح ليجد هؤلاء المواطنون أنفسهم ضحية لمخالب وأنياب النظام الرأسمالي العالمي الذي، لا يقدم لغير شعوبه إلا النهب والويلات والخرائب والحروب والدمار، وما يجري اليوم في أوكراينا، وما جرى قبل ربع قرن في يوغسلافيا ثم في العراق وأفغانستان ليس إلا دليلا على نتائج ذلك النموذج العدواني الذي طالما أغرى الإعلام الغربي العالم بفضائله وحسناته الزائفة.

* إن هذه التناولة العاجلة ليست تباكيا على الاشتراكية بنموذجها السوفييتي فهذه الاشتراكية قد كانت بحاجة إلى مراجعة وإلى إجراءات شجاعة لتصحيحها من الداخل وتحريرها من عيوب الشمولية والأحادية والتوتاليتارية وإدخال إصلاحات ديمقراطية في منظومة الحكم، لكن هذا التصحيح كان يقتضي الإمساك بأدوات التصحيح وعدم تركها للمصادفات ولرياح الأقدار تعصف بها في كل اتجاهات العبث والفوضى, ولقد برهنت التجربة الصينية أن ليس كل اشتراكية آئلة إلى زوال ومثلها برهنت تجارب بلدان ما سمي بنمور آسيا أن الرأسمالية الأمريكية والأوروبية الغربية ليست النظام العالمي الأمثل والأوحد الصالح للاقتداء به في كل بلدان العالم وأنه يمكن الجمع بين النموذج الاقتصادي الاشتراكي واقتصاد السوق القائم على المنافسة وقوانين السوق التي ليست حكرا على الرأسمالية الغربية، بل هي قوانين اقتصادية اجتماعية لا تختلف عن قوانين الفيزيا والكيميا والرياضيات الصالحة لكل زمان ومكان.