كتابات وآراء


الإثنين - 04 ديسمبر 2023 - الساعة 12:41 ص

كُتب بواسطة : د. هيثم الزبيدي - ارشيف الكاتب



كان مقلقا أن نجد السعودية في تصنيفات مؤسسة بحثية مثل كابيتال إيكونوميكس البريطانية وهي أقرب إلى الصين منها إلى الولايات المتحدة. قسمت المؤسسة العالم إلى خمس فئات. على طرف، هناك الولايات المتحدة والغرب الأوروبي (عدا هنغاريا) والغرب الأنغلوساكسوني (كندا وأستراليا) واليابان.

وعلى طرف، هناك الصين وحلفاؤها روسيا وإيران. بين الغرب وفئة عدم الانحياز الوسطى، هناك دول تميل إلى الولايات المتحدة مثل الهند والمغرب وتركيا وكوريا الجنوبية. أهم دولة في الفئة الوسطى هي البرازيل، ومن بعدها تأتي أندونيسيا. وبين الفئة الوسطى غير المنحازة وفئة الصين وحلفائها، هناك تصنيف للدول التي تميل إلى الصين وفيها العراق والسعودية.

كابيتال إيكونوميكس لم تكتف بالتصنيف العام، بل خصصت بحثا منفصلا لتحديد موقع السعودية في هذا العالم الذي يزداد استقطابا. ومن وجهة نظر المؤسسة أن الميل السعودي إلى الصين في هذا العالم المتشظي يزداد بشكل كبير.

لا نعرف بالضبط إن كان الاستقطاب خيارا إستراتيجيا صينيا. ولكن ما نحن متأكدون منه، هو أن الاستقطاب صار أساس الإستراتيجية الأميركية في العالم. هذه نسخة جديدة من مبدأ “معي أو ضدي”. سبقتها نسختان لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية: مرة خلال الحرب الباردة عندما تم تقسيم العالم إلى شرق وغرب، أو حلف ناتو وحلف وارسو، أو ليبرالية وشيوعية؛ ومرة أخرى لمرحلة المواجهة مع العالم الإسلامي، أو مع الإرهاب أو ضده، أو مع حروب أميركا أو ضدها.

ليس من المستغرب أن تصنيفات الاستقطاب الخمسة هذه ستختصر قريبا إلى ثلاث فئات: مع الغرب؛ الدول غير المنحازة؛ ومع الصين.

كابيتال إيكونوميكس مؤسسة بحثية معنية بالشأن الاقتصادي والسياسي. هذه قراءتها لعالم متشظ يعيد ترتيب نفسه. لكن إذا قارنّا هذه القراءة مع بعض القرارات الأميركية الأخيرة، فإن ما تقوله المؤسسة البحثية يعكس موقفا أميركيا من السعودية ومن وضع علاقتها مع الغرب.

فلنأخذ قرارا اتخذته الإدارة الأميركية الأسبوع الماضي. فقد أفادت وكالة بلومبرغ للأنباء الخميس بأن إدارة الرئيس جو بايدن أجبرت صندوق رأس مال استثماري تابع لأرامكو السعودية على بيع أسهمه في شركة ريننيورومورفيكس الناشئة لرقائق الذكاء الاصطناعي في سيليكون فالي، وهي شركة يدعمها المؤسس المشارك لأوبن إيه.آي سام ألتمان. ونقلت الوكالة عن مصادر مطلعة أن صندوق بروسبيرتي 7 التابع لأرامكو، وهو مستثمر رئيسي في جولة تمويل ريننيورومورفيكس للذكاء الاصطناعي، باع أسهمه في الشركة الناشئة بعد مراجعة أجرتها لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، وهي الهيئة الأميركية الرئيسية للرقابة على الصفقات التي لها تداعيات على الأمن القومي.

هذا القرار له علاقة بقرار أهم كانت الإدارة الأميركية قد اتخذته بحجب أنواع من المعالجات تنتجها شركة أنفيديا الأميركية عن الصين وتستخدم في الكمبيوترات العملاقة التي تشغّل خوارزميات الذكاء الاصطناعي. القرار الأميركي يعد أقسى إجراء اتخذته إدارة بايدن بحق بكين لأنه يضع سقفا تقنيا لجهود تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين. الرسالة الأميركية كانت ببساطة: لا تشتروا منا وتبيعوا علينا؛ أو أن من غير الوارد استخدام تقنيات أميركية متطورة للتفوق على الولايات المتحدة.

إجبار واشنطن الشركة السعودية على بيع أسهمها في شركة تطوير الرقائق لا علاقة له بقدرات السعوديين على تطوير الذكاء الاصطناعي، بل بقدرات الصينيين الذين استخدمتهم الرياض لإقامة مركز بحثي للذكاء الاصطناعي. القرار، من وجهة نظر القائمين على الأمن القومي الأميركي، هو إغلاق لبوابة خلفية يمكن للصينيين أن يتسللوا من خلالها إلى عالم صناعة هذا النوع المهم من الرقائق الإلكترونية.

صناعة الرقائق التي تشغّل كمبيوترات الذكاء الاصطناعي العملاقة تعد من أصعب الصناعات في العالم. ثمة شركتان أميركيتان فقط تنتجان هذا النوع من الرقائق، هما أنفيديا وأي أم دي. يحتاج بناء مصنع لهذه الرقائق سنوات طويلة وكلفا عالية. المهمة معقدة لدرجة أن رائدة صناعة الرقائق في العالم، شركة إنتل الأميركية، لا تزال خارج هذا السباق. هذا يصف ببساطة خطورة الباب الخلفي الصيني الموجود في الرياض، ويجعله في دائرة اهتمام المعنيين بالأمن القومي الأميركي.

هكذا ترى واشنطن العلاقة السعودية – الصينية. هل ثمة مبالغة بالأمر؟ لا نعرف. لكن إشارات عدم الراحة الأميركية من التقارب السعودي – الصيني ليست وليدة حادثة واحدة. وثمة خطورة مصاحبة لمثل هذه الإشارات.

بدأت إدارة بايدن علاقتها مع الرياض بشكل سيء. كان موقفها ينطلق من حادثة قتل الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول من قبل ضباط مخابرات سعوديين. هذا موقف سياسي ودعائي، تبدّل بحكم متغيرات كثيرة، منها تراجع المحرض من ورائه، وهي الدوحة، بعد إعادة ترتيب العلاقة السعودية – القطرية، ثم اشتعال حرب أوكرانيا مما أجبر واشنطن إلى إعادة التقارب مع الرياض باعتبارها المصدر الأهم للنفط عالميا.

لكن تراكم الموقف العدائي الأميركي من السعودية بسبب علاقتها بالصين شيء آخر. فكرة أن الرياض باب خلفي لسرقة التقنيات الأميركية المتقدمة وتمريرها إلى بكين، لو ترسخت، فإنها ستخترق منظومة الدولة العميقة الأميركية. لو تم تصنيف السعودية كبلد يبعث على الريبة في مشترياته من معدات وتقنيات، يضع الرياض في خانة أقرب إلى الأعداء منها إلى الأصدقاء. وهذه خانة، على عكس خانة انتهاكات حقوق الإنسان أو قتل صحافي، من الصعب التملص منها. وأسوأ ما في الأمر أن هذا الشك يأتي في توقيت تزيد فيه واشنطن من تشدد مواقفها ضد الصين مع كل مراجعة للعلاقة أو لقاء بين قيادات القوتين العظميين.

لا شك أن لدى السعودية الكثير من الأوراق السياسية والتجارية التي تلعبها وهي تواجه المواقف العدائية الأميركية. لكن لن نجد حربا أوكرانية تهز أسواق الطاقة والغذاء متوفرة دائما لنستفيد منها في مواجهة المواقف السياسية الأميركية. أو في أحسن الحالات، فثمة نوايا لاتفاقية سلام بين السعودية وإسرائيل يمكن أن تحدث لمرة واحدة، بل وها هي تتبدد في المدى المنظور بسبب الحرب في غزة. لا يمكن، والوضع هكذا، التعويل على الصدف العالمية وما توفره من أزمات تجبر الولايات المتحدة على قلب صفحة مع السعودية.

لا نعرف إن كانت الولايات المتحدة قد منعت توريد المعالجات المتطورة للسوبركمبيوتر الذي يبنيه الصينيون في قسم الذكاء الاصطناعي في جامعة الملك عبدالله. فشراء المعالجات وتركيبها في هذا الكمبيوتر العملاق شيء، وتمرير تقنيات بناء المعالجات الذي منعته الولايات المتحدة بقرارها إجبار أرامكو على بيع أسهما في الشركة الأميركية شيء آخر. لكن المؤكد أن الطرفين، الأميركي والسعودي، قلقان من المنحى الذي يمكن أن تذهب إليه العلاقة بينهما.

إغراءات العلاقة بين السعودية والصين كثيرة. ويمكن القول إلى حد سنوات قليلة مضت إن من الممكن إيجاد موقف سياسي سعودي يوازن بين العلاقات مع واشنطن والعلاقات مع بكين.

لكن التصنيفات التي أتت على ذكرها كابيتال إيكونوميكس وتتصرف الولايات المتحدة على أساسها عمليا، ضيقت من هامش الحركة وجعلت الاستقطاب هو أساس السياسة. بقي للرياض أن تختار وفق منطق عدوّ صديقي.. عدوّي أم صديقي؟