كتابات وآراء


الثلاثاء - 28 نوفمبر 2023 - الساعة 02:24 ص

كُتب بواسطة : علي الصراف - ارشيف الكاتب



لكي يحتفل ضابط إسرائيلي بعيد ميلاد ابنته، فقد أهداها قصفا لمنزل فلسطيني من عدة طوابق في غزة. ونشر ذلك على واحدة من صفحات التواصل الاجتماعي. الاحتفال لم يكن ليكتمل دون أن يجري تخليد المشهد.

حكاية الصراع بين “أبناء النور وأبناء الظلام” المأخوذة من “سفر أشعياء”، التي جعلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عنوانا رسميا لحفلة الانتقام من غزة، كانت قد كرست المشهد على أوسع نطاق ممكن، بالقتل والدمار والتخريب.

وزير دفاعه يوآف غالانت بدأ الحفلة بقطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عن 2.3 مليون فلسطيني، هم أصلا في سجن كبير، على اعتبار أنهم ليسوا بشرا، مما يجيز قتلهم وترويعهم وتجويعهم.

ثم جاء قصف المستشفيات ومراكز الإيواء التي ترعاها وكالة الأونروا، ليقدم تأكيدا لا يرقى إليه الشك على أن إسرائيل تشن حملة إبادة جماعية. لا تقصد مواجهة مقاتلي “حماس”، بل تقصد المدنيين، منازلهم، ومصادر عيشهم، بما فيها المخابز.

وهو ما لا يمكن اعتباره حربا، وفقا لأي مقياس من المقاييس. لا يوجد على سطح الأرض عسكري واحد يمكنه أن يُصنف ما فعلته إسرائيل في غزة على أنه “حرب”. فقط، شيء من همجية ما قبل التاريخ، إنما بأسلحة حديثة.

“الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” صدمت الجميع بوحشيتها. ثبت بالدليل الملموس أنها مشروع داعشي آخر. مشروع تعصب ديني حقود، كاره وكريه، لا يتوافق حتى مع أعتى الافتراضات المنافقة للثقافة الغربية.

الغرب (المسيحي في النهاية) اكتشف شيئا جديدا. كان من الهيّن والمعقول أن يتعامل مع حفلة القهر والقمع والقتل اليومي للفلسطينيين على أنها “إجراءات أمنية” تتخذها إسرائيل لحماية نفسها، طالما أنها تجري على أقساط، ولكن ما كان لأحد أن يتصور هذا المستوى من أعمال القتل الجماعي والتدمير الشامل التي تتوجه، تحديدا وحصرا، إلى المدنيين.

كل القيم والأعراف والقوانين التي تتعلق بحقوق الإنسان وجدت نفسها أمام امتحان عصيب، حتى لم يعد ستر الفضيحة ممكنا. النفاق نفسه سقط صريعا.

ديمقراطية “أبناء النور” اتضح أنها تنتمي في ثقافتها إلى عصور الصراعات الهمجية السابقة على اكتشاف الإنسان في الإنسان. السابقة أيضا، على اكتشاف الفرد، كمعيار أساسي للحقوق المدنية. ومن ثم ليتضح أن إسرائيل ليست دولة، تنتظم مسالكها في إطار القانون، وإنما هي دولة عصابة، تؤمن بما كان يؤمن به نبي مزيف كتب إصحاحات حرب يعمها الحقد ونبوءات الثبور، في سياق صراع ليس بين اليهود والعماليق فحسب، وإنما في سياق صراع بين يهود ويهود أيضا.

اكتشف الغرب أنه ظل يدعم كيانا ظلاميا، مثله مثل داعش تماما. يبرر أفعاله الوحشية بنصوص دينية خارجة عن السياق. ليخرج، من خلالها، عن السياق الإنساني المعاصر نفسه.

ما يعانيه الغرب، في اضطراب موقفه من إسرائيل، وسط فضيحة سردياته السابقة عن “حق إسرائيل في الوجود”، هو أن هذه الإسرائيل تحولت إلى فضيحة لنفسها وللغرب في آن معا، على كل وجه، دفعة واحدة، وأسرع مما يمكن للنفاق أن يتحمله.

قل ما شئت عن “حماس”، ولكن كان يكفي أن تتضمن صفقة التبادل للأسرى بين الطرفين نساء وأطفالا، لتكتشف أن دولة العصابة تعتقل نساء وأطفالا أيضا.

حماس عصابة. لا بأس. لك أن تقول ذلك. ولكن كيف جاز لـ“دولة” إسرائيل أن تعتقل أطفالا؟ كيف جاز أن تجعل معايير القانون (المصنوعة غربا) مجرد مسخرة عندما يتعلق الأمر بتوجيه الاتهامات لأطفال ونساء، بدافع الإدانة المسبقة، وليس بقرينة البراءة المسبقة؟

حماس العصابة، على أي حال، عاملت أسراها بحرص شديد. خرج بعض الأسرى ليشيد بالمعاملة التي تلقاها في الأسر، وليودّع سجانيه بإشارات التحية. بينما عصابة أشعياء الحاكمة في إسرائيل ظلت تعامل أسراها من الأطفال والنساء بالضرب والتجويع والتهديد بالاغتصاب.

حماس العصابة، حيث كان السجناء والسجانون يتشاركون الطعام على مائدة واحدة (ربما على الأرض)، أقنعت نفسها بالقول الكريم “ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا”، بينما عصابة أشعياء ظلت تعطي (حسب شهادات عدة أسيرات) ما يساوي عشر وجبات لثمانين أسيرة.

دولة العصابة، خشيت حتى أن تجري مقابلات علنية مع أسراها الذين تم إطلاق سراحهم. خافت أن يقولوا الحقيقة عن الطريقة التي عوملوا بها. نسجت صورة لحماس على أنها “داعش”، ولم تسمح بأن تتكشف المقارنات التي تُظهر أنها، في الواقع، هي “داعش”، وأن داعشيتها أقدم بنحو ألفي عام (من التحضر الإنساني، ومن دينين تاليين) وتجرؤ على النظر إلى البشر على أنهم حيوانات.

الثقافة في الغرب لا تستسيغ حتى قتل الحيوانات بالطريقة التي تقتل بها إسرائيل البشر، الأطفال والنساء منهم على وجه الخصوص.

خسرت إسرائيل الحرب في يومها الأول. وكل ما بقي هو الانتقام للهزيمة. المسلحون الفلسطينيون هاجموا معسكرات للجيش بالدرجة الأولى يوم 7 أكتوبر. كان يمكن للعملية أن تنتهي في هذه المعسكرات بالذات، بين قاتل ومقتول، كغيرها من الهجمات. إلا أن الهزيمة اتسعت، وفتحت الطريق أمام المسلحين للوصول إلى مستوطنات الغلاف. فكبرت العملية، واتسعت دائرة الأسر. حتى ليمكن القول: دون قصد مسبق.

قالت هذه العملية شيئا واحدا، هو أن “رابع أقوى جيش في العالم” هو واحد من أضعفها على الإطلاق. هش وهزيل، ويعتمد على تفوقه الجوي والتكنولوجي. فإذا أمكن تحييد هذا التفوق، فإن الطريق سيكون مفتوحا لتذهب إلى أينما شئت. وستقوم الطائرات الإسرائيلية بقصف الجميع، بمن فيهم مواطنوها أنفسهم.

التفوق الجوي هو نفسه ليس قوة “عسكرية” بالمعنى المألوف في إسرائيل. إنه قوة تدمير للمباني وترويع للمدنيين. لا شيء آخر. وعندما أراد غالانت أن يهدد “حزب الله”، فقد كان واضحا بما يكفي للقول إن قواته سوف تحوّل بيروت إلى غزة أخرى. و“الحرب” إذا كانت سوف تجري في جنوب لبنان، فلماذا تهديد بيروت؟ ولكن ماذا يملك جيش، يحمل هزيمته معه، أن يفعل غير التدمير؟

وعلى حين غرة، تعطل كل شيء آخر في إسرائيل. اقتصادها أصيب بالشلل، بسبب الحاجة إلى استدعاء نحو 450 ألف عسكري احتياط، بسحبهم من سوق العمل. ثم ازدحمت المطارات بالراغبين بالرحيل.

خسائر الاقتصاد الإسرائيلي ليست كبيرة على الداعمين. ولا تنقصهم القدرة على استيعاب الراغبين بالرحيل عن إسرائيل.

ما لا يمكن تعويضه هو الفضيحة الثقافية والعسكرية التي جعلت الاقتصاد وفرص العيش على كف عفريت.

إسرائيليون كثر انساقوا وراء ثقافة العصابة (الداعشية الأشعيائية) وتعايشوا مع “دولتها”، طالما أنها ظلت تفوز.

الفضيحة الأكبر: كيف لو أنها لا تفوز؟ ماذا سنفعل في ذلك الحين؟