كتابات وآراء


السبت - 20 مايو 2023 - الساعة 11:55 م

كُتب بواسطة : إبراهيم أبو عواد - ارشيف الكاتب



1

مركزية الثقافة في البناء الاجتماعي تمنح الفرد القدرة على تقييم الوضع المعرفي للمجتمع، وتقويم الأنساق الوجودية التي تربط بين الوعي والهوية، وتصهرهما في سلطة الفكر الإنساني القادر على نقد الواقع الاجتماعي على صعيد النظرية والممارسة، وكشف وهم المعرفة الذي يجعل العلاقات الاجتماعية تلغي ذاتها بذاتها.

وسلطة الفكر الإنساني ليست منظومة استبدادية تنطوي على بذرة انهيارها في داخلها، أو بنية وظيفية تحتوي على أشكال اجتماعية متناقضة وغير منطقية، وإنما هي سلطة عقلانية تعيد تشكيل الحلم الإنساني في البيئة الواعية والتاريخ المعاش، من أجل تحديد معالم المصير المشترك بين أفراد المجتمع باعتبارهم صناعا لفلسفة الأحداث اليومية، وليسوا أدوات يتم تحريكها والتلاعب بها من وراء الستار، وهذا الأمر في غاية الأهمية، لأنه يحمي الكيان الإنساني والكينونة المجتمعية من غربة الوعي، والاغتراب عن الذات الفاعلة فرديا وجماعيا، مما يدفع الفعل الاجتماعي إلى حماية مركزية الثقافة، بوصفها مشروعا معرفيا يحرر الوجود من الوعي الزائف والشعور الوهمي، وهذا يضمن توليدا مستمرا لأنساق التاريخ، منفعلا بالتجارب الحياتية الذاتية (الجزئية) والعامة (الكلية)، ومتفاعلا مع منطق اللغة الرمزي، وعابرا للمراحل الزمنية، ومتجاوزا للإفرازات السلبية لدوافع السلوك المرتبطة بالمصلحة الشخصية الضيقة.

2

مركزية الثقافة ليست بؤرة لاستقطاب المعاني المستهلكة، والنظريات المجردة، والشعارات الفارغة، وإنما هي مركزية وجودية تعيد إنتاج الزمن واكتشاف المكان، ونظام فلسفي متمركز حول الشرعية الإنسانية في أعماق المجتمع والتاريخ والحضارة. وهذا النظام الفلسفي يحافظ على ماهيته وحيويته رغم كل الضغوطات المادية الاستهلاكية، لأنه قائم على ركنين: نقد الواقع الاجتماعي، وكشف وهم المعرفة.

وهذان الركنان يحددان طبيعة رؤية الفرد للأنا والآخر، مما يساهم في توحيد مصادر المعرفة المبعثرة في مناهج التحليل الاجتماعي، ونقل الوعي الحضاري من التمركز حول الذات إلى الانطلاق نحو فضاءات الهوية الإنسانية الجامعة، ومن الانغلاق العقلي إلى الانفتاح على أنساق التفكير النقدي الإبداعي، ومن التقوقع في البيئة المحصورة إلى الزمن الوجودي المفتوح المتحرر من التحيز المسبق والأنماط الثقافية المتحجرة.

ولا يمكن إعادة البريق إلى التجارب الحياتية إلا بإعمال آليات التحليل النفسي لشخصية الفرد الإنسانية داخل اللغة وخارجها، ولا يمكن إعادة المعنى إلى الحلم الإنساني إلا بتكوين أدوات التحليل التاريخي لسلطة المجتمع الاعتبارية داخل المكان وخارجه.

3

مركزية الثقافة_بما تملكه من زخم فكري ووعي حضاري_قادرة على فتح اللغة على جذور المجتمع العميقة. وسلطة الفكر الإنساني_بما تملكه من نسق عقلاني ورمزية لغوية_قادرة على تشكيل الموروث الثقافي كسياسة حضارية.

وهاتان الحقيقتان تساهمان في تحرير إرادة الإنسان من تسارع الأحداث اليومية، وتعارض الوقائع التاريخية، وتحقيق التناغم بين نقد الواقع الاجتماعي وفحص الموروث الثقافي، وتحقيق الانسجام بين كشف وهم المعرفة ومناهج التحليل الاجتماعي، وبالتالي تصبح المعايير الأخلاقية قوانين تاريخية، وتصبح القوانين التاريخية مرجعيات حياتية لتطهير الحلم الإنساني من الوهم، وتنقية الأزمات المعرفية من غرور القوة، وانتشال الأنساق الثقافية من مصيدة اللحظة الآنية، وتخليص العلاقة بين الإنسان والطبيعة من هيمنة الآلة الميكانيكية، وما تفرزه من شعور صناعي مخادع ووعي مادي زائف، يصيران مع مرور الزمن حاجزا بين هوية الفرد الحالمة وسلطة المجتمع الضاغطة، مما يجعل الفرد عاجزا عن تحليل مكونات ذاته وعناصر بيئته، ويجعل المجتمع عاجزا عن تفسير أسس تاريخه وأركان حضارته.