كتبه / د. عبدالله بن عمر داود
خواطر عن قصيدة ( طريقي شوك مليانه) لشاعر لحج الكبير والرائع دومًا صالح نصيب رحمه الله - جاءت قصيدة (طريقي شوك مليانه) تكشف لنا عن شاعر يعيش حياة شقاء وحرمان وعذاب، فهي تحكي عن حياة إنسان يمر بتقلبات في حياته، يقول في مطلعها
طريقي شوك مليانهْ
ورودي جد ظمآنهْ
وروضي جفت أفنانه
بلا أوراق أغصانهْ
لم يترك شاعرنا صالح نصيب في قصيدته (طريقي شوك مليانه) شيئًا من حولنا إلا و ذكره وبثّ فيه ما يعانيه من مشاعر و أحاسيس، فقد وظفَّ في قصيدته كل ما أمكنه توظيفه، فذكر الطريق، والشوك، والورود الظمآنه، والأغصان، والروض، والأفنان.
ثم ذكر الأنسام التي آنسته في المساء قد خلت من الشذی الذي فح أي ذهب وانتهی. فيقول:
وأنسامي التي أمست
تؤانسني إذا هبت
شذاها فح ما شأنهْ.
فهو يتسآل ما الذي جری لشذی أنسامه؟
ثم ينتقل نصيب - رحمه الله - إلی الكلام عن أحسن أيامه في هذه الحياة شبابه الغض ( الحيوي) كيف ضاع ولم يهنأ به، فيقول:
ربيعى الغض ما عشتهْ
ولا لحظه.. تغنمته
ولا حتى تعرَّفتهْ
ذوى من غير ما شفتهْ
لحتى مات في مهدهْ
ولا شيء ذقت من شهدهْ
ولا عانقت ريانهْ
ما أروعها من سياقات حملت معاناة شخص جريح، يتحسّر علی عمره الذي مضی، فاسمع قوله:
ربيعي الغض أي عمري والغض الحيوي أفضل عمر الإنسان، مرحلة الحيوية، فهو ينفي أنّه عاشه، هو لم يمت لكنّ مقصوده لم يهنأ به، ولا غنم لحظة من لحظاته، بل لم يتعرّفه، ثم يُوضِّح أنّه ذوی وانتهی من غير أن يراه، فضلًا عن أن يعيشه ويتمتع به، فقد تم وأده في مهده، أي في صغره.
ما هذه المعاناة التي عاشاها شاعرنا صالح نصيب وذاق مرارتها؟!! فهو لم يذق حلاوته ولا عانق ريانه أي نضارته وحيوته ونشاطه.
لله درُّك يا بن نصيب. ماذا عملت بك الدنيا؟!!
وما الذي بثته فيك من مآسي؟!!، وبعد أن يُبدع في وصف عمر شبابه ( الربيع ) و لحظاته (عمره)،
يوصف وضعه ويُشبِّه نفسه بأشياء حلوة و عظيمة لكنها فقدت عظمتها وسُلِبت حلاوتها، فيقول:
أنا بحرى بلا امواج
انا أجواء بلا فجاج
أنا مأوى بلا مسراج
وجدول ماؤه أجاج
فهو بحر لكنّه جامد بلا أمواج، وهو أجواء (أُفق) لكنّه بلا فجاج بلا مساحات، مفتوح في الأعلی لكنّه ضيق في الأسفل، كمن يكون في سجن ضيق بلا سقف فينظر إلی السماء من فوقه ممتدة، لكنّه مضيَّق عليه، فلا يفد من هذه الأجواء لعدم وجود فجاج، وهو مأوی لكنّه مظلم لا سراج فيه، عبّر باسم الآلة (مسراج) ليجمع بين آلة الإضاءة وفقدان الإضاءة، وهو نهر لكن ، قد فسُد ماؤه فصار مالحًا.
هكذا رسم لنا الشاعر الكبير ذو الإحساس المرهف صورة فنية، ما أروعها من صورة!!، جمع فيها الأشياء كلها في قصيدة واحدة، بثّ فيها ما يريد أنّ يبثه، لم يترك علی اليابسة ولا في الجو شيئًًا إلا ذكره و لا في الماء مالحًا وعذبًا إلا أورده ووسمه بالفساد طعمًا وذوقًا.
جمع الأشياء الحلوة في وضع فقِدت حلوتها، والجميلة في حالة سُلبت جمالها.
ثم خلُص في آخر قصيدته إلی ذكر أمل لا زال يجعله ينبض بالحياة يتمثّل في شخص يری فيه القوت (الطعام) والمأوی. والملبس مثلث العيش للبقاء علی قيد الحياة، بل هو العمر، الذي سيظل يبعث من أجله أشواقه المبعوثه عبر أثير وموقع اتصال اسمه الآه. فيقول:
ولكن بس أنته بس
انته القوت والملبس
لقلبى انت وجدانه
لعمرى انت ياعمري
فكم اشواق من شعري
بعثها الآه من قهري
مع الأنسام والفجر
مع أطيار أصباحي
مع نشوات أقداحي
مع قلبي وأشجانه
لن تجد شاعرًا عبر مسيرة الشعر العربي ضم كل ما حوله من أشياء في قصيدة واحدة حتی شعراء الجاهلية الذين يصفون الناقة والطريق وما يلاقونه من أشياء كان صالح نصيب أروعهم إيرادًا للأشياء بصور رائعة وتشبيهات فائقة، عكس فيه خلجات نفسه وأشرك معه كل ما حوله.
فرحم الله الرحيم الغفور شاعرنا الكبير وعفا عنه فيما زل فيه لسانه وقلمه مما لا يقصد ه وتجاوز عنّا وعنّه.
كتبه أ. د. عبدالله بن عبدالله عمر داود جامعة لحج
حديبو جزيرة سقطری محافظة إرخبيل
الثلاثاء ٢٠٢٣/٧/١١م