أعادت تصريحات كريم بنزيمة أحسن لاعب كرة قدم للموسم 2021 – 2022 حول أصوله الجزائرية ووعائه الشعبي خارج التراب الفرنسي الجدل الأزلي حول دور ومكانة الجالية الجزائرية في فرنسا، وأزمة الاندماج الاجتماعي أمام إصرار نخب فرنسية على صياغة نمط لا يراعي خصوصيات المهاجرين مهما قدموا لفرنسا من إنجازات ومكاسب.
ولا يزال السجال المبطن الذي ساد حفل تتويج نجوم الكرة المستديرة، المنتظم من طرف مجلة “فرانس فوتبول” الفرنسية، محتدماً بين اللاعب المتوج بنزيمة، وبين بعض الدوائر الرياضية وحتى السياسية التي دأبت على انتقاده، خاصة بعد الرسائل الحادة التي وجهها اللاعب لهؤلاء في مختلف تصريحاته.
اندماج مشرف
تتويج بنزيمة بالكرة الذهبية هو إنجاز جديد يحققه لفرنسا، فقد أعاد الجائزة إلى الأراضي الفرنسية بعد 20 سنة من الغياب، وكان مدربه وملهمه الآخر زين الدين زيدان آخر من توج بها، لكن الغصة العنصرية لم تنطفئ، لتطرح مجددا مسألة مكانة المهاجرين وأبنائهم في المجتمع الفرنسي، قياسا بالجحود والتمييز رغم ما يحققونه من مكاسب لفرنسا.
وقد يكون ذنب بنزيمة، كما كان ذنب زيدان، وعدد من وجوه الرياضة الفرنسية، مرتبطاً بأصولهم واحتفاظهم بعلاقاتهم مع عائلاتهم في أوطانهم الأصلية، وببعض من موروث الأجداد، ولذلك نصبت له المنصات والبرامج التلفزيونية للهجوم والتحامل على شخصه خلال سنوات مضت، فقد قيل فيه ما لم يقله مالك في الخمر، وأقصي من المنتخب الفرنسي لسنوات لأسباب غير رياضية، ولم يعد إلا بإقرار الجميع بحاجة منتخب “الديكة” إلى خدماته.
ولا أحد يمكن أن يعرف تفاصيل المجتمع الفرنسي ونخبه السياسية والمثقفة كما تعرفه الجالية الجزائرية هناك، نظير تجذرها وتاريخ تواجدها الذي يعود إلى بدايات القرن الماضي، لكن ذلك لم يحقق الاندماج المنشود والاعتراف بدور هؤلاء في تشييد البلد، لأن فرنسا لا تريد إلا مهاجرا ذائبا في مجتمعها، ولا تراعي حاجة ذلك الفرد إلى روافده الشخصية المخزنة في أعماق الأجيال.
عندما توج زيدان بكأس العالم العام 1998 مع المنتخب الفرنسي، كال له الجميع المديح والإشادة، وحين نطح بنطحته الشهيرة اللاعب الإيطالي ماتيرازي العام 2006، انقلب عليه الجميع، وعادت أصوله الجزائرية إلى سطح النقاش لدى الفرنسيين، وكأن “نطحة الرأس لن تكون إلا للجزائري أو ذي الأصول الجزائرية”.
وبسيناريو مشابه، عاش النجم بنزيمة جحيما طيلة سنوات كاملة، من طرف المسؤولين عن الكرة، وحتى بعض السياسيين من اليمين واليمين المتطرف، نظير تصرفات أو مواقف تم اصطيادها، كعدم أدائه للنشيد الفرنسي، أو تعاطفه مع منتخب بلده الأصلي في العديد من المناسبات، أو ظهوره في مظهر الشخص العربي المسلم خاصة خلال شهر رمضان الكريم.
وكان المخرج التلفزيوني لحفل التتويج محترفا بدرجة كبيرة حين قرن بين كلمات بنزيمة حول الصعوبات التي عانى منها طيلة مسيرته الكروية، وبين صور مدرب “الديكة” ديديي ديشون، ورئيس الاتحاد الفرنسي نوال لوغاريت اللذين تعمدا إقصاءه من المنتخب الفرنسي لأسباب غير مقنعة رياضيا.
كانت الرسائل واضحة، خاصة وأن الزغاريد الجزائرية دوت في زوايا القاعة، مما أسبغ جوا جزائريا على الحفل رغم أنف الممتعضين الذين لم يهضموا الأمر، لكن الصمت كان مآلهم الوحيد لأن الأمر الواقع فرض نفسه.
عقدة التاريخ الكروي في فرنسا
ويبدو أن الذاكرة الفرنسية لم تتخلص بعد من ارتدادات الهزة التي أحدثها لاعبو فريق جبهة التحرير الوطني الذين رجحوا كفة القضية الوطنية على حساب النجومية والمزايا في المنتخب والنوادي الفرنسية خلال خمسينات القرن الماضي، واختاروا حمل الألوان الوطنية على حساب نواديهم هناك.
وربما تكون هي العقدة التي ورثتها الأجيال الفرنسية، حين استفاق أجدادهم على وقع الخبر الصادم الذي تصدر الصحف الفرنسية، حول فرار عدد من اللاعبين الجزائريين الناشطين في مختلف النوادي جماعيا في الثاني عشر يوليو 1958 نحو سويسرا قبل أن يحطوا الرحال في تونس لتأسيس فريق جبهة التحرير، وكان على رأسهم أربعة تم استدعاؤهم لحمل ألوان منتخب الديكة تحسبا لمونديال السويد 1958، وهم رشيد مخلوفي، عبدالعزيز بن تيفور، محمد معوش ومصطفى زيتوني الذي كان نادي ريال مدريد يريد التعاقد معه آنذاك، فضلا عن أسماء أخرى ممن تركوا المجد والنجومية والمزايا من أجل حرية وطنهم وشعبهم.
ولعل الوقوف العائلي في منصة الجائزة الذهبية، حيث وقف صاحب التتويج كريم، والوالد عبدالحفيظ، والوالدة وحيدة جبارة، والابن عبدالرحمن، والى جانبهم زيدان، أعطى قراءة سوسيولوجية تكرس دور العائلة الموروث في التقاليد العربية والجزائرية في تحقيق اللحمة والتماسك الاجتماعي، وهو ما أشار اليه بنزيمة في كلمته حين أشاد بدور عائلته في دعمه والوقوف معه لما كان يتعرض للهجومات المختلفة من طرف المجتمع الرياضي والسياسي.
وحمل المشهد دلالات عميقة عن ثقل الجالية الجزائرية في المجتمع الفرنسي، خاصة وأن القاعة كانت تعج بأفراد العائلة والمقربين ودوت في أركانها الزغاريد والهتاف بحياة كريم بنزيمة، وهو أمر يكون قد ابتلع على مضض لكنه أكد حتمية التعايش والاعتراف بتلك الجالية، فهي إذ تحقق المكاسب لفرنسا، فمن حقها الارتباط بوطنها الأصلي وبثقافة وإرث أجدادها.
بنزيمة على أبواب الخضر
بنزيمة، وقبل أن يصبح نجم نادي ريال مدريد الأول خاصة في السنوات الأخيرة ويتوج معه بالألقاب المحلية والقارية والدولية، هو طفل عانى من شظف العيش في إحدى ضواحي المهاجرين بمدينة ليون، وقبل أن يتدرج في نادي المدينة المنافس في الدوري الممتاز الفرنسي، عايش ظروف الإقصاء والتهميش والتمييز الذي يعانيه المهاجرون البسطاء في ليون وفي عموم فرنسا، ولذلك نشأ على مشاعر التحدي وصناعة المجد من أجل رد الاعتبار.
سقط في أكثر من واقعة امتزج فيها جنوح الشباب ونوايا الانتقام من مشروع نجم من أصول ليست فرنسية، فكان مادة دسمة للصحف والتلفزيونات والمواقع لسنوات، بداية من الاغتصاب إلى الابتزاز والانحراف، ومرورا بتعمد عدم ترديد النشيد الفرنسي، والاعتزاز بأصوله الجزائرية وتشجيع منتخب المحاربين وارتداء قميصهم، لكن رغم ذلك حوّل الفشل إلى نجاح بفضل دعم العائلة والأنصار خارج فرنسا، وفرض عودته إلى صفوف “الديكة”.
ولعل سؤال أحد الصحافيين الذي بدأه بالقول “نحن الفرنسيون” ينطوي على أزمة الاندماج في المجتمع الفرنسي، ووجد الجواب الشافي من بنزيمة عندما عبر عن اعتزازه بأصوله، وإهداء تتويجه لـ”الشعب”، ومصطلح �الشعب� يطلق في ديار الغربة الفرنسية على المهاجرين ومن خلفهم الملايين من الجزائريين في بلدهم.
ولا يزال المتابعون يتذكرون السجال المحتدم بين بنزيمة ومسؤولي المنتخب الفرنسي حين قرر رئيس الاتحاد لوغاريت عدم استدعائه مستقبلا للعب في صفوف المنتخب الفرنسي، والذي رد عليه بالقول “دعوني ألعب في واحد من المنتخبات التي أنا مؤهل للعب لها وسنرى إن أنا انتهيت” في إشارة إلى المنتخب الجزائري.
وتابع “نوال، اعتقدت أنك لا تتدخل في قرارات المدرب، أنا الوحيد من يقرّر متى أضع حدا لمشاركتي مع الفريق الوطني”.
ويذكر الإعلامي الرياضي الجزائري حسين جناد أن بنزيمة لعب في أكتوبر 2015 آخر مباراة له مع “الديكة” ضد أرمينيا قبل أن يتم إبعاده لأسباب غير رياضية، سجل حينها هدفين وكان عمره 27 عاما وشارك في 87 مقابلة، لكن ذلك لم يشفع له للإفلات من القرار المذكور الذي استمر ست سنوات كاملة.
وأضاف “بعد إبعاده عن المنتخب الفرنسي كان على رأس الاتحاد الجزائري لكرة القدم محمد روراوة مهندس قانون ‘الباهاماس’، وقد راودته فكرة ضم اللاعب إلى المنتخب الوطني الجزائري، فربط معه الاتصال، ورحب بنزيمة بالفكرة، وهنا كان على رئيس الاتحاد أن يجتهد ليجد مسوغاً قانونياً يتيح لبنزيمة الانضمام إلى المنتخب الجزائري”.
هذا ما كان يفكر فيه اللاعب، أما بالنسبة إلى روراوة، فالفكرة كانت جاهزة وتنتظر المصادقة عليها فقط، وتتمثل في الانتقال من قانون “الباهاماس أ” إلى قانون “الباهاماس ب”، حيث أجرى روراوة اتصالاته برؤساء الاتحادات الأفريقية والآسيوية وقارات أخرى، مقترحا عليهم التقدم بعرض قانون جديد مكمل لقانون الباهاماس الأول على الجمعية العامة للاتحاد الدولي للمصادقة عليه، فنال المقترح موافقة الجميع وجاءت الإضافة كما يلي “يحق لأي لاعب له أصول غير أصول البلد الذي لعب لمنتخبه أن يغير جنسيته الرياضية، وينتقل إلى منتخب البلد الذي تربطه به أصول، وهذا في حال واصل المنتخب الذي يلعب له تهميشه، ولم يوجه له الدعوة لأربع سنوات على التوالي، دون الأخذ بعين الاعتبار سن اللاعب وعدد المقابلات التي لعبها للمنتخب الأول”.
استهوت الفكرة بنزيمة، وفقاً لجناد، وأصبح يرى نفسه لاعبا في المنتخب الوطني الجزائري بعد مرور أربع سنوات على آخر مقابلة له بألوان المنتخب الفرنسي، بداية من أكتوبر 2015 إلى نهاية أكتوبر 2019، وصار يظهر علانية وعبر حسابه على تويتر وإنستغرام بقميص المنتخب الوطني، ويقدم التهاني للشعب الجزائري بمناسبة عيد الاستقلال، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد غادر روراوة الاتحاد في مارس 2017، والذين خلفوه استحدثوا شروطا تعجيزية لالتحاق اللاعبين المغتربين بالمنتخب الوطني أجهضت الحلم قبل أن يعيد القائمون على منتخب “الديكة” حساباتهم ويعيدون بنزيمة إلى صفوفه بعد ست سنوات من الإبعاد.
حكومة ريال مدريد
التحق بنزيمة بريال مدريد العام 2009، ولا يزال يذكر كيف فوجئ بوجود الرئيس فلورونتينو بيريز في بيته بمدينة ليون ليقدم له العرض، وشكل ذلك محطة محورية في مشواره الرياضي، ولا يزال إلى حد الآن ثابتا في مركزه وفريقه الإسباني رغم مغادرة الكثير من اللاعبين الذين زاملهم.
ويلقب بنزيمة من قبل الأنصار بـ”الحكومة” لما يحظى به من ثقة لدى مختلف المدربين والمسؤولين في ريال مدريد، فحتى في ذروة ظروفه الصعبة وأفول نجمه، ظل اللاعب محافظا على مكانته في النادي، مما أعطى الانطباع لديهم بأن نفوذ اللاعب يشبه نفوذ الحكومة التي لا تتزعزع.
وقال عنه مدربه الحالي كارلو أنشيلوتي “بنزيمة هو أفضل لاعب في العام بلا شك. بالنسبة إلينا هو اللاعب الأكثر أهمية والأكثر فاعلية، كان من المهم الفوز بدوري أبطال أوروبا، فهو لم يسجل في النهائي لكنه سجل ثلاثة أهداف ضد السيتي وتشيلسي وباريس سان جيرمان.. إنه بالتأكيد الأفضل الآن ولا نحتاج إلى النظر للآخرين”.