عرب وعالم

الخميس - 13 أكتوبر 2022 - الساعة 04:05 ص بتوقيت اليمن ،،،

العرب


صنع الرئيس الأميركي جو بايدن علاقة مضطربة مع السعودية منذ الأيام الأولى لإعلان فوزه برئاسة الولايات المتحدة. وبعد عام من رؤية الأضرار التي لحقت بمكانتها في المنطقة، سعى إلى “إعادة ضبط” هذه العلاقة، ولكنه مني بالفشل لأنه لم يغير شيئا في مساراته حيال قضايا المنطقة الرئيسية. ويحاول الآن أن ينتهز ذريعة خفض “أوبك ” لإنتاج النفط لأجل السعي لـ”إعادة تقييم” هذه العلاقة. إلا أنه لن ينجح في غير إلحاق المزيد من الضرر بالولايات المتحدة نفسها.


بعد أيام من إعلان فوزه بالرئاسة، أي من قبل أن تتخذ السعودية أي إجراء يضر بعلاقاتها بالولايات المتحدة، أعلن بايدن عزمه على العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. ولم تمض أيام أخرى حتى أعلن أنه سوف يكشف عن تقرير وكالة المخابرات المركزية بشأن مسؤولية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن مقتل الصحافي جمال خاشقجي.

وقد اجتمع لديه سببان رئيسيان لذلك. الأول، هو كراهيته الشخصية لكل ما كان يفعله سلفه دونالد ترامب، الذي تبنى سياسات صارمة تجاه إيران وانسحب من الاتفاق النووي في العام 2018، وكانت الرياض أولى زياراته الخارجية. والثاني، هو موقف عداء مسبق ضد السعودية تراكم منذ أن تعرضت العلاقات بين البلدين إلى برود ملموس على امتداد سنوات الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض بين عامي 2009 و2017. وهي الفترة التي تم فيها التفاوض مع إيران سرا، بمعزل عن استشارة أقرب حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، حتى تم التوقيع على الاتفاق في العام 2015، الأمر الذي أثار مشاعر صدمة في الرياض لم تنقض آثارها حتى الآن.

في أعقاب اندلاع انتفاضات ما أصبح يسمى بـ”الربيع العربي” في العام 2011 وما تلاه، ازداد البرود حدة مع تصدر الولايات المتحدة دعم تنظيمات الإخوان المسلمين ودفعها إلى تولي السلطة في تونس ومصر وليبيا. وكان من الواضح أن جو بايدن نائب الرئيس، ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في ذلك الوقت، يعملان على تقديم تسهيلات لهذا التنظيم، بالتنسيق مع قطر، لكي يمتد أثره إلى السعودية نفسها، ما قد يؤدي، بحسب تقييمات أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية، إلى تفكيك السعودية وتقسيمها إلى عدة دويلات متنازعة. وهو ما كشفت عنه التسجيلات الصوتية بين أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة والرئيس الليبي معمر القذافي.

توتر قديم جديد

الطبيعة المؤامراتية الفعلية للسياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس أوباما، سواء في العلاقة مع إيران، أو في العلاقة مع تنظيمات الإخوان المسلمين، أجبرت الرياض على أن تتبنى موقفا أكثر تحفظا مع واشنطن. ومنها بدأت التخطيط لإقامة روابط أكثر توازنا مع باقي الدول العظمى، بما يشمل تنويع مصادر السلاح.

الأمير محمد بن سلمان آل سعود برز كوريث للسلطة ابتداء من العام 2015 عندما تولى منصب وزير الدفاع، وهو يرى الخطر، الذي باتت تمثله تلك السياسات. كما يرى من يمكن أن يقفوا وراءها. بل إنه رأى مواطن الضعف التي جعلت السعودية تبدو وكأنها تابع أمني للولايات المتحدة وبحاجة دائمة إلى حمايتها.

وبرغم أن هذا الواقع تغير الآن بنسبة كبيرة، إلا أن تصوراته القديمة هي التي ما تزال تغري بعض أعضاء الكونغرس، من الحزبين، بالتنمر على السعودية واستمرار تهديدها.

مع الأيام الأولى لتولي الرئيس بايدن السلطة، تبين أن العلاقات الأميركية السعودية سائرة في منحدر لا سبيل لتحاشيه، خاصة بعد قراره رفع اسم جماعة الحوثي من قائمة المنظمات الإرهابية. ولكن ذلك لم يكن ليعني أن تقطع الرياض وشائج التعاون الإستراتيجي مع واشنطن، وقررت التعامل مع المنعطف بهدوء، ولكن ببرود أيضا.

الأزمة في اليمن ظلت تتعمق، ما كشف للبيت الأبيض أن موقفه من الحرب هناك كان زلة قدم جسيمة، على غرار زلة القدم التي نشأت باستئناف التفاوض على الاتفاق النووي. فإيران لم تقدم تنازلات. وفشلت الولايات المتحدة في أن تقدم ضمانات أمنية لدول المنطقة، في إطار الصياغة الجديدة للاتفاق. وبينما ظل الوجود الأميركي يتعرض للتهديدات من جانب إيران وحلفائها في العراق، فقد أدت الهجمات الصاروخية على المنشآت النفطية ضد السعودية والإمارات، فضلا عن أعمال التخريب ضد الملاحة في الخليج، إلى إثارة المزيد من التساؤلات حول جدوى العلاقات الأمنية مع واشنطن.

السعودية استغلت تلك الضربات لكي تقول لحليفها في واشنطن: لم تثبت مرة أخرى، أنك حليف جدير بالثقة.

الفكرة الأساسية التي انطلقت منها الرياض، في امتصاص حملة الاستعداء المسبقة، كانت بسيطة ومباشرة للغاية، وهي تقول: دع الأحمق يكتشف حماقته بنفسه ويغرق بها، لكي يرى ماذا يعني التواطؤ مع إيران، وما هي كلفته عليه.

في يوليو 2012، أدرك الرئيس بايدن شيئا مما صنعت يداه. فقرر زيارة السعودية تحت شعار “إعادة ضبط” العلاقات بين البلدين.

حملة استعداء

بايدن الذي سبق وأن تعهد بمعاملة السعودية كـ”دولة منبوذة”، اكتشف أن البرود السعودي حيال إدارته، لم يقتصر على الرياض وحدها، ولكنه شمل معظم عواصم المنطقة أيضا. ما جعل الولايات المتحدة نفسها تبدو منبوذة، من جانب حلفائها التقليديين، من دون أن تكسب شيئا من إيران أو حتى مرونة من جماعة الحوثي، التي واصلت رفضها للحل السياسي في اليمن.

كتب بايدن مقالا في صحيفة “واشنطن بوست”، التي كان يكتب فيها خاشقجي، ليقول إن هدفه هو “إعادة توجيه العلاقات، وليس قطعها مع الرياض”.

جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، قال بدوره إن بايدن “يرغب في إعادة ضبط العلاقات مع السعودية، لا تدميرها”، وأنه سيناقش ملف حقوق الإنسان خلال الزيارة.

وفرت قضية مقتل خاشقجي مبررا ليس لحملة الاستعداء وحدها، وإنما لتبرير كل الخطايا الإستراتيجية الأخرى أيضا. والسؤال الذي ظل عالقا هو، هل كان التركيز على هذه القضية انتقاما لفشل ما كان يقف وراءها من سياسات؟

تعمد الرئيس بايدن أن يغطي لقاءه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان باجتماع قمة شمل تسع دول. كما تعمدت البروتوكولات أن يكتفي اللقاء الأول بمصافحة بقبضة اليد بدلا من المصافحة الاعتيادية.

ذهب بايدن إلى إسرائيل، على أمل أن يقدم لها شيئا من ثمرات توسيع دائرة التطبيع، ثم التقى بالرئيس الفلسطيني محمود عباس ليؤكد له موقفه من حل الدولتين، قبل أن يحل بالرياض لكي يُعيد موضعة الولايات المتحدة في المنطقة التي كانت تقف على حافة أن تخسر نفوذها فيها.

ما حصل في القمة التي جمعت زعماء دول مجلس التعاون الخليجي والعراق والأردن ومصر، هو أن كل قادة المنطقة ركزوا على قضيتين: الأولى، التهديدات الإيرانية للاستقرار في المنطقة. والثانية، فشل إسرائيل المتواصل في قبول مبادرة السلام العربية. وهما قضيتان يعرف الرئيس بايدن، أنه زاد أولها سوءا، وأنه عاجز حيال الثانية.

السعودية، التي قررت في ذلك الوقت أن ترفع الحظر عن رحلات الطيران الإسرائيلية من المرور في أجواء المملكة، لم تشأ أن يعود الرئيس بايدن من زيارته خالي الوفاض. قدمت له قطعة حلوى لكي يتسلى بها في طريق عودته.

ومع حرصه على “إعادة ضبط” علاقات بلاده بالرياض وأبوظبي، فقد وافق على صفقة صواريخ باتريوت جديدة بقيمة 3 مليارات دولار، كما وافق على صفقة طائرات “أف 35” التي كانت إدارة ترامب قد وافقت عليها في أيامها الأخيرة وتعمد هو تجميدها.

الرياض كانت تريد صواريخ “ناسامس” التي أعلن مؤخرا عن عزم واشنطن تزويد أوكرانيا بها. ولكنها قبلت بصفقة الباتريوت، لكي لا يكون رفضها عاملا في زعزعة سعي بايدن لكي يعيد ضبط نفسه معها.

صواريخ “ناسامس” أكثر كفاءة بالكثير من باتريوت، إلا أن الرياض وأبوظبي تم استثناؤهما منها على الرغم من أنهما أكثر تعرضا للتهديدات من دول المنطقة الأخرى التي تملكها مثل قطر وعمان والكويت.

كان العنوان في الرياض يقول: إن التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، ما يزال يمتلك مبررات كبيرة، اقتصادية وأمنية، للمحافظة عليه. ولكن من دون تضحيات بالمصالح الخاصة، لاسيما وأن العثرات التي ظلت تواصلها إدارة بايدن، أثبتت المرة تلو الأخرى، أنها تقتفي أثر إستراتيجيات الرئيس أوباما.

“إعادة الضبط” لم تضبط شيئا في مكانة الولايات المتحدة في المنطقة. والإنجاز الوحيد، الذي برز أخيرا، هو ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. حتى صفقات التسلح المعلنة، والتي لم تنفذ بعد، لا توجد ضمانات قاطعة بأنه سيجري تنفيذها بالفعل.

عرقلة التسليح

الرياض وأبوظبي، إنما تنتظران “إعادة التقييم” الجديدة التي يهدد بها الرئيس بايدن الآن، لكي تطلقا يديهما في العثور على بدائل، من دون أن يقع عليهما اللوم بأنهما اختارتا إدارة الظهر لواشنطن.

الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لم يختر باريس كأول زيارة خارجية له بعد توليه منصبه، إلا في إطار البحث عن بدائل.

باريس التي صحت ذات يوم على “طعنة في الظهر” بإلغاء صفقة الغواصات مع أستراليا بعد إعلان تحالف “إيكوس” بين واشنطن ولندن وكانبيرا، تعرف ماذا تعنيه “إعادة الضبط” بالنسبة إلى الإمارات عندما تتحول إلى طعنات في الظهر.

الآن، القيامة قامت في واشنطن، لأن تحالف “أوبك ” قرر خفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل، في سوق تعاني من الفائض أصلا. ويتم النظر إلى الأمر على أنه مساهمة من جانب السعودية لتمويل ميزانية الرئيس بوتين الحربية. بينما كل حقائق السوق تقول إن هذا شيء غير صحيح، وأن روسيا هي أقل المستفيدين من القرار، قياسا بباقي دول أوبك الأخرى.

السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز قال “عليّ أن أشجب القرار الأخير الذي اتخذته الحكومة السعودية للمساعدة في دعم حرب بوتين من خلال كارتل أوبك”.

وكتب ديمقراطيان آخران هما السناتور ريتشارد بلومنثال والنائب في مجلس النواب رو خانا عمودا في “بوليتيكو” يقولان فيه “لا ينبغي لأميركا منح مثل هذه السيطرة غير المحدودة لأنظمة الدفاع الإستراتيجية إلى دولة متحالفة على ما يبدو مع عدونا الأكبر”.

جون كيربي منسق الاتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي بدا على عجلة من أمره بالقول إن الرئيس بايدن مستعد للعمل مع الكونغرس لإعادة تقييم العلاقات مع السعودية وإنه “يريد أن يبدأ هذه المشاورات الآن.. لا أعتقد بأنه يتعين الانتظار أو حتى أن ذلك سيستغرق وقتاً”.

“إعادة التقييم” المنتظرة، تشمل وقف صفقات التسلح مع الرياض، وتعطيلها مع أبوظبي، وتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، وربما تشجيعها على المزيد من التهديدات وأعمال زعزعة الاستقرار في المنطقة، وتقديم الإشارات لجماعة الحوثي باستئناف الحرب، وتصعيد الهجمات ضد المنشآت النفطية والمدنية في السعودية والإمارات.

السعودية والإمارات استعدتا، منذ اليوم الأول لإعلان فوز الرئيس بايدن بمنصبه، لكل ذلك. هو الذي شجعها على الإسراع في تدبر الاحتياطات والبدائل الإستراتيجية الأخرى.

عسكريا وأمنيا، البلدان قوة كبرى قادرة على الدفاع عن نفسها من دون الحاجة إلى أسلحة أميركية. وسياسيا، فإنهما يتمتعان بمنظومة علاقات دولية وطيدة أكثر رسوخا واستقرارا من العلاقة مع واشنطن. واقتصاديا، فإنهما اليوم، معا أو على انفراد، قوة إقليمية ودولية لا يمكن الاستهانة بها.

وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، بعد كل الحملة ضد الرياض، قال إن “العلاقة مع واشنطن إستراتيجية وداعمة لأمن واستقرار المنطقة”.

وهناك سبب لذلك، هو أن شراكة الثمانين عاما، لا يصح من وجهة نظر الرياض أن تتدهور لمجرد أن هناك رئيسا يتخذ منذ اليوم الأول في سلطته موقفا عدائيا ضدها. لقد مر على هذه الشراكة العديد من الرؤساء وظلت راسخة ومفيدة للطرفين.

الفكرة الأساس هي أن الرئيس بايدن أضر بمكانة الولايات المتحدة وبدورها في المنطقة، واختار كل المسالك الخاطئة في كل القضايا التي تهم حلفاء بلاده، وتنمر عليهم من دون مبرر، وعندما أدرك ذلك، وسعى إلى “إعادة ضبط” ما أخطأ فيه، فقد فشل لأنه لم يغير مساراته الخاطئة تجاه تلك القضايا. وبالتالي فإن كل ما سوف تفعله “إعادة التقييم” هو أنها قد تزيد السوء سوءا، إلا أنها لن تدمر كل شيء، لأنها ليست سوى تعبير عن انفعالات فشل.