عرب وعالم

الثلاثاء - 22 مارس 2022 - الساعة 06:03 ص بتوقيت اليمن ،،،

الحبيب الأسود

من خضم الصراع المحتدم داخل أوكرانيا، تطفو على السطح شخصيات مثيرة للجدل، لعل من أبرزها الزعيم الشيشاني رمضان قديروف الذي أعلن وجوده وسط الأراضي الأوكرانية إلى جانب القوات الروسية، كما نشر مقطع فيديو على تليغرام، بزي عسكري خلال مراجعته خططا وهو يجلس إلى طاولة مع جنود داخل غرفة عمليات بالقرب من العاصمة كييف.


وبينما يبدي الإسلام السياسي السني بمختلف تشكيلاته عداء لموسكو ومساندة غير محدودة للتحالف الأوروبي الأميركي الداعم لأوكرانيا، يتقدم قديروف كداعم أساسي للرئيس فلاديمير بوتين، من منطلق انتمائه العرقي والديني ومنصبه كرئيس لجمهورية الشيشان التي تمثل إحدى مكونات الاتحاد الروسي.

فتح كييف

طالب قديروف الرئيس بوتين، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة الروسية، بإصدار أوامره لفتح العاصمة الأوكرانية كييف وسائر المدن الأوكرانية الأخرى، وقال “أناشدكم إصدار أوامركم لمقاتلينا لكي يدخلوا خاركوف وكييف وسائر المدن (الأوكرانية) الأخرى في أسرع وقت”، مشيرا إلى أنه يرى أنه من الضروري أن تدخل القوات الروسية المدن الأوكرانية لكي تنجز مهمتها في أقرب وقت وتتفادى سقوط المزيد من الضحايا.

كما أعلن إرسال أحد أقوى قادته على رأس ألف متطوع للمشاركة في العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وقال إنه بعث بمساعده المكلف بشؤون الدفاع أبتي علاء الدينوف، على رأس ألف متطوع من جمهورية الشيشان، للمشاركة في عملية خاصة لنزع سلاح أوكرانيا، واصفا إياه بـ”المقاتل المتمرس الذي أثبت مرارا قدرته العسكرية العالية”.

ويرى المراقبون أن قديروف يمثل نموذجا فريدا في الولاء التام للقيادة الروسية، وهو ما يضعه في مرمى الانتقادات الصادرة عن قوى الإسلام السياسي في المنطقة والعالم، والتي تنظر إلى بوتين على أنه العدو الأشرس بسبب مواقفه منها، ففي العام 2003 حظرت المحكمة العليا الروسية عمل جماعة الإخوان المسلمين في روسيا ووصفتها بأنها منظمة إرهابية، وتدخلت موسكو في النزاع السوري لدعم النظام في مواجهة معارضيه وأغلبهم من الجماعات الإسلامية، وتدخلت كذلك في ليبيا لمساندة قوات المشير خليفة حفتر في مواجهة الميليشيات الدينية، كما كانت من الدول الكبرى المتفهمة لما جرى في مصر في صيف 2013 عندما تمت الإطاحة بحكم المرشد، والمستعدة للتحالف مع محور الاعتدال العربي في التصدي لعاصفة ما سمي بالربيع العربي وإفرازاتها اللاحقة.

كما لم تنس الجماعات الدينية تحالفاتها السابقة ضد السوفييت وصولا إلى حرب أفغانستان، وما تلاها من صراعات مفتوحة بمنطقة شرق أوروبا والقوقاز، ومن ذلك حرب الشيشان الانفصالية عن روسيا الاتحادية في أواخر سنة 1991 والتي تزعمها الجنرال جوهر دوداييف بدعم من الغرب وبعض الدول العربية وتيار الإسلام السياسي، في مسعى إلى تقسيم الكيان الروسي المتبقي من تشتت الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي.

قامت روسيا بتعيين أحمد قديروف كرئيس لجمهورية الشيشان المعترف بها، وهو الذي درس قواعد الدين الإسلامي في جمهورية أوزبكستان السوفييتية خلال فترة الثمانينات وظهر إلى السطح عام 1989 عندما تولى رئاسة أول معهد للدين الإسلامي في شمال القوقاز، ثم عين مفتيا للشيشان، وقد تم اغتياله في انفجار ضخم في التاسع من مايو 2004 في ملعب دينامو بغروزني خلال الاحتفال بيوم النصر، تبناه القائد الشيشاني شامل باساييف المكنى بالأمير عبدالله شامل أبوإدريس والذي قتل بدوره بعد عامين، نتيجة انفجار غامض بقرية إيكازهيفو، في جمهورية إنغوشيا المتاخمة للشيشان.

ويشكل المسلمون حوالي 11 في المئة من إجمالي سكان روسيا، وهم يمثلون أغلبية سكان جمهوريات باشكورستان وتترستان في منطقة الفولغا، ويسود الإسلام بين القوميات في منطقة شمال القوقاز الفيدرالية التي تقع بين البحر الأسود وبحر قزوين؛ كالشركس والبلقار والشيشان والإنغوشيين القبرديين والقراشاي والعديد من شعوب داغستان. أيضا في منتصف حوض الفولغا يقيم السكان من البلغار وباشكير، الغالبية العظمى منهم من المسلمين. وتشمل المناطق الأخرى مع عدد ملحوظ من السكان المسلمين موسكو وأورنبرغ أوبلاست، بالإضافة إلى جمهوريات أديغيا وأوبلاست أستراخان في المنطقة الفيدرالية الجنوبية.

على خطى الأب

يعتبر المراهنون على إعادة إنعاش ظاهرة الصحوة الإسلامية بعد فشلها وذهاب ريحها، أن لهم ثأرا مع موسكو مقابل تحالفهم القائم مع واشنطن، ويرون أن المواجهة الحقيقية لا بد أن تفرز انقساما لروسيا الاتحادية وقياما لدولة المسلمين فيها امتدادا للمشروع الذي يشمل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأقاليم البلقان والقوقاز، وهو ما أدركه الروس من خلال متابعتهم لتحول الأراضي السورية منذ العام 2012 إلى مركز جذب للمتشددين الإسلاميين من مختلف الجنسيات بما فيها الروسية، استعدادا لنقل المعركة لاحقا إلى حدودهم الإقليمية.

كان قديروف الأب قائدا عسكريا كبيرا في معركة الانفصال عن روسيا، قبل تصالحه مع موسكو، وكان ابنه رمضان قد بدأ يحذو حذو والده، واعدا بالوصول إلى الزعامة التي يطمح إليها ويؤهله لها انتماؤه الأسري حيث تتحدّر عائلته من عشيرة “قديروف” ذات المكانة الدينية والسياسية البارزة في البلاد.

وُلد في أكتوبر 1976 في مدينة تسنتوروي شمال شرقي الشيشان أيام الاتحاد السوفييتي، وقد كان الابن الأصغر في أسرته بعد ثلاثة أشقاء أحدهم توفي في العام 2004، ويقال إنه كان يسعى على الدوام لنيل تقدير والده ويعمل على تقليده، كما كان شغوفا بالملاكمة، والتقى بالبطل العالمي كايل تايزون، وفي بدايات التسعينات دخل إلى ساحات القتال مع والده في مواجهة القوات الروسية، وبعد توقف الحرب اختار أن يكون السائق الخاص والحارس الشخصي لوالده الذي أصبح آنذاك مفتي الحكومة الانفصالية في الشيشان.

تزوج قديروف من مدني موساييفنا قاديروفا التي أنجبت له 6 بنات وثلاثة أولاد، وبدأت ملامح شخصيته تتشكل على نطاق واسع بالسير على خطى والده في منحى التصوف الإسلامي وفق الطريقة القادرية التي تنتمي إليها أسرته وتتخذ منها مصدرا لاسمها “قديروف”.

وتنتشر الصوفية في روسيا بكل من داغستان والشيشان وإنغوشيا حيث هناك العديد من الطرق التي أسستها السلطات الدينية وسميت على اسمها، ويتم تمثيلها بالطريقتين النقشبندية والقادرية، كما أن الطريقة الشاذلية شائعة في داغستان، وهناك أكثر من 30 جماعة صوفية في الشيشان. وبعد أن كانت الطريقة النقشبندية الأكثر نفوذا حتى العام 1991 شهدت الأعوام التالية انتشارا واسعا للطريقة القادرية التي هيمنت على جانب مهم من الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية.

 في عام 2000، وعندما أصبح قديروف الأب رئيسا للإدارة المؤقتة، ترأس ابنه جهاز الأمن التابع لوالده، وشكله من مقاتلين مخلصين له شخصيا، كما كان مفتشا للاتصالات والمعدات الخاصة في مقر شركة شرطة منفصلة تابعة لمديرية الشؤون الداخلية التابعة لوزارة الشؤون الداخلية في الاتحاد الروسي، وقد تضمنت مهامها حراسة المباني الحكومية وضمان سلامة كبار المسؤولين في جمهورية الشيشان.

وبعد انتخاب والده رئيسا للشيشان في العام 2003 أصبح رئيسا لجهاز الأمن الرئاسي. وبحسب الإحصائيات الرسمية فقد تعرض لخمس محاولات اغتيال، لكنه بالمقابل شكّل مركز نفوذ قوي، فقد جمع من حوله عددا كبيرا من المسلحين الانفصاليين السابقين، ولاسيما بعد أن شغل منصب مساعد وزير الداخلية في الشيشان.

بعد يوم واحد من اغتيال والده تم تعيينه نائبا أول لرئيس حكومة جمهورية الشيشان مع إشرافه على وحدة الطاقة، ثم توجه مجلس الدولة وحكومة الشيشان إلى الرئيس بوتين بطلب لتغيير التشريع حتى يتمكن قديروف من التسجيل كمرشح لمنصب الرئيس الشيشاني، ووفقا لدستور الجمهورية فإن الشخص الذي وصل إلى سن 30 يمكن أن يصبح رئيسا، وكان عمر قديروف 28 عاما آنذاك، لكن بوتين لم يغير التشريع.

في تلك الأثناء، كان أبرز مشاغل قديروف هو أن يتوصل إلى تصفية باساييف الذي اغتال والده، مع دخوله في مواجهات مع المسلحين الانفصاليين، كما تولى عددا من المسؤوليات المهمة، وعندما تعرض رئيس الوزراء الشيشاني سيرجي أبراموف لحادث سير وأصيب بجروح خطيرة، قرر الرئيس الشيشاني علي ألخانوف تعيين قديروف رئيسا بالنيابة لحكومة الجمهورية، وعندما استقال أبراموف من منصبه بسبب ظروفه الصحية، اقترح ألخانوف على مجلس الشعب الشيشاني ترشيح قديروف لمنصب رئيس حكومة الجمهورية، وتمت الموافقة عليه بالإجماع.

بعد ذلك اندلع صراع بين قديروف وألخانوف، فقد طالب رئيس الحكومة بالسلطة الكاملة في الجمهورية، وحين اقترب عمره من الثلاثين، مما يسمح له بتولي الرئاسة، لم تبد موسكو حماسا لاتساع نفوذ قديروف على الأرض، لكنّ تبادلا لإطلاق النار حصل بين حرس رئيس الجمهورية وحرس رئيس الحكومة دفع ببوتين إلى استقبال الرجلين والوساطة بينهما.

أخيرا، استقال ألخانوف ووقّع بوتين مرسوما بتعيين قديروف رئيسا بالإنابة للشيشان، قبل أن يقترح ترشيحه لينظر فيه البرلمان الشيشاني، وقد أيد ذلك 56 من أصل 58 نائبا من مجلسي البرلمان الشيشاني، وتم تنظيم حفل تنصيب قديروف كرئيس لجمهورية الشيشان في غودرميس، حيث حضر رئيس وزراء الشيشان السابق سيرجي أبراموف، ورؤساء عدة مناطق في المنطقة الفيدرالية الجنوبية، ورئيس جمهورية أبخازيا سيرجي باغابش.

ترميم البلاد

استطاع قديروف أن يضبط الأوضاع في الشيشان، حيث ساد الأمن والاستقرار، وتميزت فترة حكمه بالبناء على نطاق واسع وترميم البنية التحتية للبلاد، والتي أصبحت ممكنة بشكل رئيسي بفضل الدعم من الميزانية الفيدرالية. كما عرفت حالة من الأسلمة الاجتماعية والتقليدية بملامحها الصوفية في مواجهة الإسلام السياسي، فقد تم افتتاح مسجد قلب الشيشان والجامعة الإسلامية الروسية ومدارس حافظ وعيادة للطب الإسلامي في غروزني، وكان قديروف يصر على الظهور في صورة الرجل المتديّن وهو ما لا يتناقض مع دوره القيادي في حزب “روسيا الموحدة” والذي جعله يستمر في مركز الصدارة من خلال الشعبية التي يحظى بها.

خلال السنوات الماضية شكل قديروف لنفسه صورة “الزعيم الأوحد” في الشيشان، كما احتفظ بعلاقة وطيدة مع بوتين، ما أعطاه سلطة واسعة في إدارة شؤون جمهوريته بكثير من الإسناد المركزي القادم من موسكو.

وفي كل حروب بوتين تقدم قديروف الصفوف ليندمج فيها بقوة، وآخرها حرب أوكرانيا التي اندفع إليها مرتديا بزته العسكرية كقائد ميداني، بينما يحشد مناوئوه صفوفهم في معركة مصيرية للطرفين، إذ يقول المحللون إن قديروف اليوم هو الوجه الآخر لبوتين، ينتصران معا أو يُهزمان معا كما يحدث للشخص وظله.