عرب وعالم

الجمعة - 19 ديسمبر 2025 - الساعة 12:02 م بتوقيت اليمن ،،،

مختار الدبابي


تمثل زيارة قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان إلى السعودية محطة مهمة للسلام في السودان إذا فهم السودانيون أن مسارات السلام المختلفة تصب في الرياض، فأي تدخلات ثنائية أو جماعية للحل تتعامل مع السعودية كطرف رئيسي بدءا من منبر جدة ثم جنيف ونيروبي. لكن إذا نظر إليها البرهان من جانب المغالبة وتسجيل نقاط على حساب خصمه قائد الدعم السريع محمد دقلو (حميدتي)، فهذا يعني أنه لم يفهم ما تريده القيادة السعودية من الزيارة ومن دعوتها الرئيس الأميركي ترامب إلى دعم الحل في السودان.

لا يبحث السعوديون عن حليف أو تابع، ولا يدعمون فريقا على حساب آخر، ما يهمهم هو الضغط على القادة السودانيين للبحث عن المشترك الذي ينهي الحرب، لكن قبل ذلك وقف إطلاق النار وتخفيف المعاناة عن السودانيين وإيصال المساعدات إلى النازحين من لهيب نار الإخوة الأعداء.

تسيطر على جمهور الحركة الإسلامية، التي تتحكم في البرهان ومن ورائه المؤسسة العسكرية، فكرة أن السعودية تدعم الجيش السوداني دون شروط، وذلك ضمن توازنات إقليمية تسعى فيها المملكة إلى أن تكون طرفا مؤثرا، وهي فكرة مهزوزة ودون أسس لأن السعوديين سبقوا أن انتقدوا طرفي الحرب في السودان دون تخصيص من معهم ومن ضدهم. كما أن هذا الإيحاء ليس أسلوب السعودية في بناء نفوذها الإقليمي، فهي لا تدعم الصراعات البينية داخل الدول، ولا تنافس دولا إقليمية على النفوذ، وأدوات نفوذها بعيدة عن تمويل الحروب والإنفاق على شراء الأسلحة وتهريبها وتشكيل الميليشيات.

يتأتي نفوذ السعودية في أغلب مظاهره من طبيعتها كدولة وازنة لديها أوراق قوة مالية واستثمارية ونفطية، وأخرى رمزية تتعلق بكونها مركزا دينيا يلتف حولها العالم الإسلامي، وهو ما يجعل من شبه المستحيل رهانها على دعم جيش سوداني تتخفى وراءه حركة إسلامية بهوية إخوانية تتناقض كليا مع المقاربة الدينية للسعودية وتصنفها جماعة إرهابية.

قد تكون المملكة فتحت أمام قيادات إخوانية الباب للتدريس و”أكل الخبز” في عقود سابقة، لكن فرصة انفتاح السعودية الجديدة على الجماعة وفروعها وممثليها لم يعد أمرا ممكنا ليس فقط بسبب تغيير القوانين والمناهج والتخلي عن السردية الدينية للجماعة التي كانت تدرّس للسعوديين، ولكن، وهذا الأهم، أن المملكة اختارت نهج الانفتاح الديني والثقافي والاندماج الإيجابي في المجتمع الدولي، ولا سبيل للعودة إلى الوراء.

وبالنتيجة، فإن ما يهم السعوديين من استقبال البرهان وقبله وفودا سودانية في منبر جدة هو جمع السودانيين على طاولة التفاوض مستفيدة من وزنها الاعتباري لديهم وفي الإقليم، وخاصة من حيادها في الصراع السوداني – السوداني، ومن حرصها على تأمين الاستقرار الإقليمي في منطقة حيوية مشاطئة للبحر الأحمر.

سيؤمن السعودية فرصة أخرى وبارقة أمل أخيرة للسودانيين تحت مظلة منبر جدة، خاصة أنه مدعوم من الولايات المتحدة، التي تحركت مجددا لدعم الحل السياسي في السودان بطلب مباشر من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال زيارته الأخيرة لواشنطن ولقاء القمة الأخير مع الرئيس دونالد ترامب. وتصب مختلف مسارات السلام الخاصة بالسودان في السعودية التي سيكون دورها مؤثرا في إنجاح الحل سياسيا وماليا.

وانطلقت أولى جولات منبر جدة في السادس من مايو 2023 برعاية سعودية وأميركية مشتركة. وشهد المنبر قبل توقف أعماله في نوفمبر 2023، الاتفاق على هدنة إنسانية لكن لم يجر الالتزام بها من الطرفين، وخاصة من جانب قيادة الجيش السوداني، التي كانت تضع أولوية لها خيار الحل العسكري، لكن تطورات الحرب في الأشهر الستة الماضية قلبت المعادلة رأسا على عقب.

ومن شأن التحرك السعودي أن يسحب المبررات من البرهان ويقيم عليه الحجة، بعد أن رفض التعاطي مع دعوة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات) إلى التهدئة، وهي المبادرة التي طرحها مستشار ترامب لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط مسعد بولس ووصفها البرهان بأنها “أسوأ الأوراق لأنها تلغي وجود الجيش وتطالب بحل الأجهزة الأمنية وتبقي على الدعم السريع”، مردفا “لن نقبل بذلك”.

وخلال زيارته للسعودية، قال البرهان إنه سيعمل مع مستشار ترامب من أجل إحلال السلام في السودان، ولا يعرف إن كان كلام قائد الجيش السوداني جديا أم أنه مجرد حديث مجاملة للسعودية ولبولس نفسه الذي التقى به في الرياض. لكن لا شك بأن البرهان قد سمع كلاما سعوديا واضحا ودقيقا بشأن الوضع، وهو ما كان عبر عنه وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان أمام الجمعية العامة في سبتمبر الماضي.

وأكد الأمير فيصل بن فرحان على حرص المملكة على استقرار السودان ووحدة وسلامة أراضيه، مشددا على أهمية استمرار الحوار عبر منبر جدة، ورفضها لأي خطوات خارج إطار مؤسسات الدولة التي قد تمس وحدة السودان ولا تعبّر عن إرادة شعبه، وهو ما يعني أن السعودية ترفض تفكيك السودان وتفتيته وقيام دولة للجيش وأخرى لقوات الدعم السريع.

السعودية وسيط، وعلى السودانيين أن يتحملوا مسؤوليتهم لإنقاذ بلادهم. يمكن للرياض أن تساعد بالنصيحة وأن تجمع الفرقاء وتبني الثقة وأن تقدم مساعدات للنازحين، لكنها لن تفعل أكثر من ذلك إن لم تر مؤشرات جدية على رغبة الجميع في السلام، هل يتصور البرهان بأن السعودية ستحتفي به وهو يستمر في المكابرة ويتمسك بالحسم العسكري، كيف لها أن تقدم الدعم المالي والاستثماري لتأكله نار الحرب أو تلتهمه سوق السلاح المهرب.

من المهم تنشيط مسارات الحوار السوداني – السوداني وتنويع الشركاء في الحوار، والابتعاد به عن مسارات التجميع القائمة على اعتبارات عسكرية أو قبلية ووعود التقسيم. ومن الواضح في المزاج الإقليمي والدولي وجود توجه لتحييد القوى العسكرية وبناء مقاربات لحكم مدني بعيدا عن الاستقطاب الذي تلا سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير ومحاولة السطو على السلطة تحت مسميات مختلفة.

لقد بلغ السودانيون مرحلة عرفوا فيها بأن دول الإقليم، سواء تلك التي تقف في صف الجيش أو الدعم السريع، لم يعد لديها الاستعداد ولا الوقت للقبول باستمرار حرب مفتوحة على المجهول تهدد أمن الإقليم، من ذلك أن مصر، التي تدعم الجيش السوداني، تفضل الاحتكام إلى الحلول الدبلوماسية لحل النزاع في الدولة الجارة، وتخشى من أن يؤدي استمراره إلى تداعيات ستؤثر عليها مستقبلا.

وسيكون أول اختبار لنتائج زيارة البرهان للمملكة مرهونا بمدى استجابته للمشاركة في اجتماعات منبر جدة 2، وقبل ذلك اتخاذ إجراءات لبناء الثقة مع الوسيط السعودي من مثل تسهيل وصول المساعدات الإنسانية وفتح الممرات الآمنة، والكف عن خطاب خلط الأوراق إقليميا، واستدعاء أكثر من دولة إلى النزاع لإظهار قدرته على المناورة، فماذا سيمكن أن يستفيد البرهان من وجود إيران أو روسيا وتركيا في نزاع مطلوب حله إقليميا، وخاصة من الدول المشاطئة للبحر الأحمر أفريقيا وعربيا. العرب