أخبار وتقارير

الخميس - 24 يوليو 2025 - الساعة 08:54 م بتوقيت اليمن ،،،

وحيد الفودعي


يشهد الاقتصاد اليمني مرحلة حرجة من التآكل البنيوي، لا سيما في المناطق المحررة التي تفقد يومًا بعد آخر أدواتها السيادية في إدارة الموارد وتثبيت الاستقرار النقدي، بما في ذلك استقرار سعر العملة الوطنية الذي يتدهور يومًا بعد يوم وبشكل مخيف، منذرًا بكارثة اقتصادية وإنسانية متعددة الأبعاد؛ في قلب هذا المشهد المضطرب، يقف البنك المركزي اليمني في عدن كأحد آخر الجدران التي تحاول مقاومة موجات الانهيار،

وسط معركة متعددة الأوجه تتجاوز نطاق اختصاصه التقني إلى ميدان أكثر تعقيدًا سياسيًا وإداريًا وأمنيًا؛ المقابلة الصحفية التي أجراها فتحي بن لزرق مع محافظ البنك المركزي كشفت بوضوح عن أبعاد هذه المعركة، وعن حجم التناقضات التي تحكم العلاقة بين المؤسسات الرسمية في الدولة.

تصريح المحافظ بأن إدارة البنك تخوض "حربًا صعبة ومعقدة لكنها ترفض الاستسلام" لا يندرج في إطار المبالغة أو المجاز الخطابي؛ بل يعكس واقعًا فعليًا تواجهه المؤسسة النقدية التي وُضعت في مواجهة اختلالات مركّبة خارجة عن اختصاصها، لكنها تُحاسب عليها يوميًا من السوق ومن الناس ومن الحكومة على حد سواء؛

إذ يُفترض بالبنك أن يضبط السيولة، ويحمي سعر الصرف، ويموّل الالتزامات العامة، ويقاوم عمليات المضاربة؛ لكنه في المقابل لا يُمنح ما يلزم من أدوات مالية أو دعم سياسي أو سيطرة حقيقية على مصادر الإيراد، الأمر الذي يجعل مهمته أقرب إلى محاولة التوازن على حبل مهترئ فوق هاوية مالية سحيقة.

أولى الملاحظات الجوهرية التي يثيرها حديث المحافظ تتعلق بطبيعة العلاقة المختلة بين البنك المركزي والحكومة من جهة، وبين الحكومة ومواردها من جهة أخرى؛ فالإقرار بأن الدولة تعمل من دون ميزانية رسمية منذ عام 2019 يعكس حالة من الفوضى المالية غير المسبوقة،

وهي فوضى لا تمكّن أي سلطة نقدية من القيام بوظائفها التقليدية أو الاستباقية؛ فغياب الميزانية لا يعني فقط فقدان البوصلة في ترتيب الأولويات، بل يُفقد البنك أداة مركزية في ضبط التوقعات المالية، ويجعله يتخبط في تغطية التزامات لا يد له في تقريرها.

يتحدث المحافظ أيضًا عن أنّ ما يصل من الموارد العامة إلى البنك لا يتجاوز 25% من الالتزامات، وأنّ أكثر من 147 جهة إيرادية حكومية لا تخضع لرقابة حقيقية؛ هذه النسبة تعني ببساطة أنّ البنك المركزي اليمني يُستخدم كواجهة لتحمل تبعات مالية لم يشارك في صنعها، بل ويُحمَّل مسؤولية عجز هو نتيجة مباشرة لاختلال المنظومة الإيرادية للدولة؛

هذا الخلل البنيوي يفرغ السياسة النقدية من محتواها، ويجعل أي إجراءات إصلاحية تبدو وكأنها محاولات يائسة في ظل نظام مالي مزدوج يتصرف فيه البعض خارج الأطر القانونية، بينما يُطلب من المؤسسة المركزية الحفاظ على الاستقرار النقدي وكأنها تعمل في بيئة متكاملة ومنضبطة!

ما يلفت الانتباه أكثر هو ما كشف عنه المحافظ بشأن المحافظات التي تدير "ميزانيات محلية" خارج نطاق الدولة وتتصرف بمواردها من دون تخطيط أو رقابة؛ إنّ هذا النمط من اللامركزية المالية غير المنظم يهدد ما تبقى من فكرة الدولة الواحدة، ويجعل من أي سياسة نقدية مجرد تمرين نظري بلا أدوات تنفيذية حقيقية؛ البنك المركزي في ظل هذا الواقع، يتحول إلى محاسب مُفلس يُطلب منه تمويل الالتزامات المركزية من دون أن تصله الإيرادات المركزية.

إنها مفارقة لا تستقيم اقتصاديًا ولا يمكن أن تُحل إلا بتدخل سيادي حقيقي يفرض وحدة القرار المالي وتكامل المسؤوليات بين المستويات الإدارية المختلفة.

في جانب آخر، تطرق المحافظ إلى ملف محلات الصرافة، مشيرًا إلى إجراءات اتُّخذت في عدن وبعض المحافظات، بينما تعجز السلطات عن ضبط الأسواق في مناطق أخرى؛ وهذا الاعتراف يُظهر هشاشة الرقابة النقدية في بلدٍ يعاني من اقتصاد غير رسمي متضخم، وتحوُّل أدوات الصرف إلى أدوات للمضاربة والتلاعب، بل وساحة مفتوحة أمام تدخلات من أطراف خارجية كجماعة الحوثي التي أشار المحافظ إلى تورطها في عمليات مضاربة منظمة باستخدام كميات من العملة المحلية في عدن؛

هذا النوع من الهجمات الاقتصادية يتطلب استجابة تنسيقية عالية المستوى تتجاوز قدرات البنك المركزي منفردًا، وتستلزم دعمًا أمنيًا واستخباراتيًا ومؤسساتيًا لحماية السوق من التلاعب السياسي الذي يرتدي قناعًا نقديًا.

أما فيما يتعلق بالاحتياطات الأجنبية، فإنّ ما ذكره المحافظ عما تبقى من الوديعة السعودية بنحو 225 مليون دولار فقط، وعدم إمكانية التصرف بها من دون إذن المودع، يشير بوضوح إلى أنّ أدوات التدخل النقدي باتت شبه معدومة، وأنّ الاعتماد على الدعم الخارجي – وبخاصة حين يكون مشروطًا وغير متجدد – ليس حلاً طويل الأمد، بل مسكن قصير النفس لا يصمد أمام متطلبات السوق؛ إنّ هذا الواقع يفرض على الدولة البحث عن موارد حقيقية مستدامة.

وفي ختام المقابلة، أوجز المحافظ رؤيته في أربعة محاور أساسية يرى أنّها تمثّل الطريق الممكن لوقف الانهيار: أولها استئناف تصدير النفط، وثانيها توجيه الموارد العامة إلى البنك المركزي، وثالثها إعداد موازنة حكومية حقيقية، ورابعها تحرير الدولار الجمركي؛ هذه الرؤية، وإن بدت واقعية ومتماسكة في مضمونها، إلا أنّ تنفيذها يتطلب ما هو أعمق من التوجيهات الفنية؛ إنّها تتطلب إرادة سياسية موحدة تُعيد صياغة مفهوم الدولة المالية، وتُنهي حالة الانفصام بين المركز والأطراف، وتستعيد الولاية السيادية الكاملة على المال العام، وتربط بين التخطيط المالي والسياسة النقدية ضمن إطار جامع لا يسمح للموارد بأن تتسرب، ولا للقرارات بأن تُصاغ خارج المؤسسة.

إنّ المقابلة، بما كشفته من تفاصيل، لا تعبّر عن موقف دفاعي للبنك المركزي، بل تمثل وثيقة إقرار بحجم العجز المؤسسي الذي تعانيه الدولة، وتعكس الحاجة الملحة إلى انتقال سياسي وإداري واقتصادي نحو دولة قادرة على استعادة أدواتها، وتوحيد قرارها، وإدارة اقتصادها على وفق قواعد المصلحة الوطنية لا منطق الأقاليم المتصارعة،

وفي ظل غياب هذا التحول؛ فإنّ البنك المركزي سيظل، بكل ما فيه من كفاءة أو نوايا حسنة، مؤسسة عاجزة عن الفعل؛ تلهث خلف السوق من دون أن تُمسك بزمامها، وتُطالب بالحلول بينما تُحرم من حق الإمساك بالمفاتيح.