أخبار وتقارير

الجمعة - 15 سبتمبر 2023 - الساعة 04:00 م بتوقيت اليمن ،،،

كتبه أ. د. عبدالله بن عبدالله عمر داود


المقطع الثاني (ظلال تحت الهدب) من قصيدة (وقعت في حب أعمی)
يقول نصيب - رحمه الله -:
عينين ربي كســاها
ظلال تحت الهدب
ومن حنـــانه رواها
بشهد حالي وصب
وحط نسمه على الخد تُحرَس وتُرعى وتُعبد
جابت لعقلي الجنون.

يبدأ الشاعر مقطعه الثاني بذكر العيون بالتثنية، وهي إحدی طرق تغني الشعراء بالعيون، و قد يذكر الشعراء العينين بصيغة الجمع كقول القمندان:
صادت عيون المها قلبي
وبصيغة المفرد كقول صالح مهدي:
سألت العين حبيبي فاين
وكل ذلك قد جاء عند شعراء العربية.
قوله :عينين ربي كساها
ظلال تحت الهدب.
بدأ صالح نصيب - رحمه الله- - مقطعه الثاني من قصيدته (وقعت في حب أعمی) بذكر العينين مُقدِّمًا إياهما علی عامل نصبهما الفعل (كساها)، إذ التقدير: كسی ربي عينين ظلال تحت الهدب.
وكسی ينصب مفعولين: المفعول الأول العينين و والمفعول الثاني الظلال
وفائدة هذا التقديم الاهتمام بهما وأنّهما مقصد ما سيأتي ذكره من أبيات في القصيدة.
قوله:"ربي كساها"
إنّ الاعتداد بذكر خالق هذا الجمال ومكسي العينين ظلالًا تحت الهدف يعد من محاسن وأخلاقيات صالح نصيب - رحمه الله - الذي يتصف في شعره بذكر صاحب الابداع لهذا الحُسن و الجمال وخالقه.
فقوله: (ربي كساها) اعتراف من الشاعر نصيب - رحمه الله - أنّ المتفرد بخلق الجمال في العينين وبكسوتهما الظلال حتی صارا محط إعجاب نصيب - رحمه الله - هو الله عز وجل.
ومن إبداعات صالح نصيب - رحمه الله - توظيفه الألفاظ توظيفًا حسنًا يتلاءم مع جو النص ويخدم السياق ويسهم في تماسك نص القصيدة مثال ذلك توظيفه الفعل (كسا)، واحتفاؤه بذكر ربه في هذه القصيدة وفي قصائد أخری كقصيدة (أخاف والخوف منك)، إذ يقول:
ما دام ربي كساك هذه الصفات الجميلة وفضّلك
عن سواك ارع لربي جميله
فهو يدعو المخلوق إلی التفكر في ما أنعم الله عليه من نعمة خلق حب الجمال، فالله عز وجل جميل يحب الجمال كما جاء في الحديث الصحيح.
فنصيب - رحمه الله - يرجع كل جميل في العيون وفي غيرها إلی خالقه العلي الكبير بقوله: ربي، وفي قوله: (كساها) صورة مجازية رائعة تجسّدت فيها العينان وكانّهما إنسان يستحق أن يُكسی بحلة جميلة، فحذف المشبه به ورمز إليه بالفعل (كسا)، وهذا رابط يسهم في تماسك النص من جهة المعنی ويقوّي السياق، وملخصه أنّ الكسوة لا تكون إلا لمن أيقنا استحقاقه للإكرام، فطالما الجلال يتسامی في العينين فلا غرابة من كسوتها؛ لتليق بمقام السحر الساكن فيه الجلال فتأمل الترابط بين أبيات القصيدة.
والفعل (كسا) جاء بمشتقاته في الوحيين ففي القرآن قال تعالی: { من أوسط ما تُطعمون أهليكم أو كسوتهم} المائدة الآية ٨٩، و في حديث ": أول من يُكسی يوم القيامة نبي الله إبراهيم" -عليه والصلاة والسلام -
فألفاظ نصيب - رحمه الله - في قصائده للقرآن فيها نصيب.
فنصيب - رحمه الله - يغرق في وصف العينين وما حباها الله من حُسن وجمال.
ومن روائع نصيب -رحمه الله- أنّه لا يتغافل عن ذكر أدق التفاصيل في العينين فيقول: إنّ الله - عز وجل- كسا العينين ظلال تحت الهدب، ووفق علمنا القاصر المحدود أنّه لم يلتفت شاعر من الشعراء قبل نصيب - رحمه الله - إلی ذكر هذه الكسوة (الظلال) بل أقولها بصراحة: لم يَسبِق أحد من الشعراء شاعرنا نصيب - رحمه الله - في ذكر هذه الظلال قبل أن يوردها شاعرنا نصيب - رحمه الله - في قصيدته هذه، ونجزم أنّ كثيرًا منّا لم يشعر بوجود هذا الظلال حتی لفت انتباهنا إليه نصيب - رحمه الله - شاعر الغزل اللحجي بلا منازع، فلله درُّكِ يا لحج كم فيكِ من مبدعين غمرهم الزمن وأخفتهم أيدي نكران الإبداع وغيبتهم الأيام والليالي.
وقوله: (ومن حنانه رواها)
اتصفت هذه العينين عند شاعرنا بأنّ خالقها الوّهاب الجليل قد رواها من حنانه، و هذه صفة ثانية لم يلتفت إليها أحد من الشعراء أو من غيرهم ممن تغنّی بالعينين وبجمالها قبل نصيب - رحمه الله -، فنصيب يذكر أنّ العينين محاطة بحنان الله - عز وجل- فقد رواها ربنا الكريم من حنانه، فهي تحمل من الحنان ما تحمله، قال تعالی في بيان حنانه الذي منّ به علی نبيه يحيی - عليه الصلاة والسلام - إذ قال:{ وحنانًا من لدنا وزكاة وكان تقيًا} مريم الآية ١٣ فنصيب يوظف ألفاظ القرآن في شعره كثيرًا.
و إبداع نصيب -رحمه الله- لا يقتصر علی توظيف الألفاظ بل يتعداه إلی إخراج هذه الألفاظ في سياقات ماتعة رائعة وصور بيانية بديعة، فتأمل تقديمه شبه الجملة الجار والمجرو (ومن حنانه) الذي يفيد الاهتمام، ويسهم و يرفع نصيب من شأن العينين وأنّها رُويت من حنان الله - عز وجل-، وهذا يُكسب العينين حنانًا، يظهر في أوقات معينة حين ننظر باستعطاف ورحمة إلی من يستحق العطف والرحمة.
وقوله: (رواها) استعمال رائع للفظ في سياق مجازي، فقد شبّه العينين بإنسان يُروی ثم حذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه الفعل ( روی) وقد أدی المعنی بصورة مذهلة، إذ جعل العينين كالزرع الذي يروی.
ومما أبدع فيه نصيب توظيفه ظاهرة التقديم في كل قصائده مثل: ( طريقي شوك مليانه) ويشهد له في هذه القصيدة تقديم (عينين) و (من حنانه).
وفي قوله: بشهد حالي وصب
الشهد هو عسل النحل بل أطيبه، والشهد من أسماء العسل.
ثم زاد وصف الشهد بأنّه حالي، وقوله: وصب أي تتابع صب هذا العسل وتدفقه.
ومن إبداعات نصيب - رحمه الله - أنّ العينين تُحاط بحارس أمين، فقال:
وحط نسمة علی الخد
تحرس وترعی وتعبد
جابت لعقلي الجنان
قوله: وحط: الفاعل ضمير مستتر يعود علی الله - عز وجل- وفيه دليل علی إكثار نصيب- رحمه الله - من ذكر الخالق المبدع للجمال في العينين، و يعد نصيب - رحمه الله - أكثر شعراء العربية اهتمامًا بذكر ربه والاعتراف لخالقه و بإبداعه ولا تجد هذه الظاهرة مستفحلة عند شاعر غير نصيب إلا ما ندر.
قوله: (وحط نسمه علی الخد)
ففي الفعل (حط) دلالة علی عناية- ربنا عز وجل - بهذا المخلوق، فالحط يكون برقة وعناية فائقة.
ووصف هذه النسمة بأنّها تحرس العينيين، فالعينانِ ملكة لها من يحرسها، ولها من يرعاها أي يهتم بها ولأمرها. وفي هذا صورة بيانية مجازية، شبّه العينين بملكة مخدومة حراسةً ورعايةً.
ومن مبالغات المحمودة لشاعرنا نصيب - رحمه الله - أنّه وصف هذه النسمة بأنّها تعبد العينين، وليس في هذا ما قد يظنّه بعض من لا يفقه مذهب الشعراء وأساليبهم في المبالغة في تصوير ما يعتلج في خلجات صدورهم من محذور، فليس في عبادة النسمة للعينين ما يدعو إلی الإنكار، فمعروف أنّ النسمة لم تدّعي أنّ العينين إله من دون الله - عز وجل - بل هي مبالغة من نصيب - رحمه الله- يريد بها أن يُظهر عظمة العينين، ثم إنّ كلاهما لا يصدر منه فعل، وليس من أهل التكليف، وهو رابط يسهم في ترابط النص، فقد ذكر نصيب - رحمه الله- في مطلع القصيدة أنّ الجلال يتسامی بجلوسه في العينين، ولذا ففي قوله: (تحرس) حماية لهذا الجلال الذي تفاخر بتربعه علی عرش مملكة العينين.
ويختم نصيب - رحمه الله - المقطع الثاني بقوله:
جابت لعقلي الجنان
فبعد سيل متدفق من الأوصاف البديعة والصور المجازية الجميلة يعلن نصيب - رحمه الله - أنّ هذين العينين قد أحضرت لعقله الجنان.
واستعمل الفعل (جابت) بمعناه العامي.
انتهی شرح المقطع الثاني.