منوعات

الأحد - 19 مارس 2023 - الساعة 01:45 ص بتوقيت اليمن ،،،

أحمد فضل شبلول


يكشف كتاب “أم كلثوم الشعر والغناء” للأكاديمي أحمد يوسف علي أستاذ النقد الأدبي والبلاغة بكلية الآداب بجامعة الزقازيق، عن سرٍّ جديد من أسرار عبقرية سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وهو سرٌّ ثقافي أو نقدي – أو الاثنان معًا – لم يلتفت إليه كثيرًا معظم من كتبوا عن كوكب الشرق.

كما يأتي هذا الكتاب، الصادر عن عن مركز أبوظبي للغة العربية، في زمن الهجوم على رموزنا الثقافية والفنية والدينية، وتسفيهها وتسفيه آرائها، وإنكار جهودها في ميادينها، لتصبحَ مصر بذلك صحراء عاريةً من الرموز والقامات والأشجار الباسقة والمياه المتدفِّقة التي تروي عطشَ الإنسانِ العربي لقيم الحق والخير والجمال.

اختيار القصائد

يقول الكاتب الصحافي رأفت السويركي في مقدمته الضافية لهذا الكتاب إن “تجربة الأستاذ أحمد يوسف علي في هذا المؤلَّف تقودنا إلى التعلم من منهجه، عبر الرصد التاريخاني لتطور النوع الإبداعي، وتصويب بعض المُشاع في حوافه، بتقديم الأدلة المتغافل عنها، وتحقيق الترابط المنطقي في مفاصل رحلة القصائد المُغنَّاة بخياراتها وتطويرات بعض نصوصها، إحلالاً ودمجًا تلبيةً للضرورات الموسيقية والسياسية لكل مرحلة غناء، معتمدةً على ذائقتها وقدراتها الخاصة والكامنة في فنون الشاعرية”.

ويؤكد السويركي أن يوسف علي لم يترك شاردةً أو واردةً إلا وتعامل معها باقتدار شيخ اللغة العربية، واضعًا بناءً متماسكًا حول “شاعرية أم كلثوم” في إنتاج نصها المغنَّى والمموسق، حتى وإن انتسب لغويًّا إلى شعراء أفذاذ في لغة الضاد، مع التركيز على قصائد أحمد شوقي وإبراهيم ناجي محل التطبيق في جهد القراءة، ورصد قدراتِها الهاضمة لنصوص كلامية فتقدمها صوتيا، أي كإلقاء مُنغَّم يفتحُ آفاقًا غير مكتشفة لدى المتلقِّي المستمع.

ويرى السويركي أن هذه التجربة في التأليف تضع أيدينا على تطبيق فن اكتشاف الشاعرية الكامنة في ذات أم كلثوم في هذا المجال، بل وتصل إلى التصور بأن أم كلثوم لها نصوصُها الخاصة في فنون الشعر غير المسفر عنها.

وفي مقدمته، التي جاءت تحت عنوان “قبل البدء” أوضح الدكتور أحمد يوسف علي أنه عُرف عن كبار المغنّين في حياتنا المعاصرة أنهم يؤدون ما يُوضع لهم، من ألحانٍ لكلمات يكتبها الشعراء الذين يكتبون بالفصحى أو بالعامية، وأنَّ تدخُّلَ هؤلاء المغنين في ما يغنون تدخل محدود في قبول النص الشعري أو رفضه، أو في تعديل طفيف لكلمة هنا، أو كلمة هناك من كلمات النص، ولكن لم يكن مألوفًا ولا معروفًا أن يُعلن المُغني موقفه الصريح فيختار من النصوص ما يختار، ويقبل منها ما يقبل، وفق رؤية فكرية واجتماعية تحدد علاقته بمجتمعه وقضاياه، وعلاقته بمجتمعه العربي، ومجتمعه الإنساني، وهو ما مارسته أم كلثوم بوعي ورؤية واقتدار في كل ما قدمته من قصائد.

وغنت أم كلثوم أولا من عيون الشعر العربي، منذ القرن الثالث الهجري حتى وقتنا الراهن. وغنت لشعراء مصريين وعرب وشعراء من خارج الثقافة العربية. وثانيا، غنت لشعراء اختارت أن تُغني لهم بعد رحيلهم، واستدعت شعرَهم، وكأنه بعثٌ جديد. ولما لم تكن قصائد هؤلاء الشعراء مكتوبةً للغناء أو لقالب القصيدة المُغناة، فقد بزغتْ رؤيتُها الفنية في اختيار النص وتكوينه، وبناء وحداته من بين العشرات من الأبيات التي كتبها الشاعر في قصيدة مثل “نهج البردة” أو “النيل” أو “ولد الهدى” لأحمد شوقي، أو “الأطلال” لإبراهيم ناجي أو غير ذلك.

وعلى ذلك فإن أم كلثوم غنت القصيدة، التي كتبها الشاعر للغناء، وغنت القصيدة التي لم يكتبها صاحبُها للغناء، فكونت نصَّها، ووفَّرت له وحدته، من حيث التماسك النصي، ومن حيث الموضوع والرؤية.

ويطرح المؤلف عددًا من الأسئلة سيجيب عنها بعد ذلك، ومنها: لماذا غنت أم كلثوم القصيدة؟ وما عدد هذه القصائد؟ وما أشكالُها؟ وما موضوعاتُها؟ ومَن الشعراء الذين غنَّت لهم؟ ولماذا اختارت ما اختارت من نصوص القصائد الكبرى؟ وكيف كونته؟ وماذا توفَّرَ فيه من الشروط النصية؟ ولماذا استدعته، وكيف أدَّته؟ وما هي الأيديولوجيا التي تبنتها أم كلثوم في اختيار القصائد التي ستغنيها؟ أي الخطاب الشعري والأيديولوجيا عند أم كلثوم.

من خلال الإجابات عن هذه الأسئلة تجيء مباحث كتاب “أم كلثوم الشعر والغناء” الخمسة، وهي المباحث: الشعر والغناء، وغناء القصائد، وشوقيات أم كلثوم بين التلقِّي وتاريخ الأدب، وأم كلثوم تؤلِّف الأطلال، والخطاب الشعري والأيديولوجيا.

بين الشاعر والمغني

في المبحث الأول يؤكد المؤلف أن الشعر ارتبط بالغناء منذ القدم، “فالغناء حلّة الشعر، إن لم يلبسها طُويت”، على حد قول ابن رشيق، وحول هذا المعنى تدور الصفحات الأولى في هذا المبحث، إلى أن نصل إلى عصر شوقي وعبدالوهاب، حيث كان عبدالوهاب يمثل لشوقي “عاطفةً في قلبه، وفكرةً في رأسه، ونورًا في عينيه”، كما يقول كامل الشناوي. لقد أدرك شوقي أنه بحاجة ماسة إلى صوتٍ فريد، وخيالٍ مبدع أكثر من حاجة عبدالوهاب إليه. ثم أفلت عبدالوهاب تمامًا من أسر شوقي بعد رحيله، فغنى لآخرين.

ثم يوضح أن أم كلثوم كانت علامةً فريدة في تاريخ العلاقة بين الشعر والغناء، وبين الشاعر والمغنِّي، وذلك بعد أن يعرض بصورة موجزة جدا لمسيرة أم كلثوم في حياتها الشاقة والمؤلمة والمثيرة للإعجاب والشجن، إلى أن انتقلت إلى القاهرة لتعيشَ صراعًا عنيفًا وشديدًا مع منيرة المهدية وغيرها ممن تربعن على عرش اللذة والغناء والطرب في القاهرة، وسيطرن على مراكز النفوذ وصنع القرار.

ولكنها – أي أم كلثوم – ارتقت في سلم الرقي المدارج الصعبة، وصنعت ما لم تصنعه النساء والمغنيات والمطربات من قبل، فالتفتت إلى الغايات الكبرى للنهضة العربية، ومنها ربط الواقع الراهن بأزهى عصور العطاء الحضاري في تاريخ العرب والمسلمين، فغنت القصائد اللافتة لكبار الشعراء من أمثال أبي فراس الحمداني وأحمد شوقي من العرب، وعمر الخيام ومحمد إقبال من خارج الثقافة العربية، فأعادت بذلك للعامة والخاصة الارتباط الوجداني والفكري بالشعر العربي، وأعادت للفصحى اعتبارَها الذي أخنى عليه الدهر، وارتقت بالعامية فصارت على مقربة من أساليب الفصحى وبيانها الجميل.

لقد التفتت أم كلثوم بحسِّها الاجتماعي إلى الدور الاجتماعي للفنان والمثقف، فلم تعزلْ نفسها وفنها عن نداءات الناس والوطن في مصر، ولا في أمتها العربية. وهذا ينقلنا إلى اختيارات أم كلثوم للنصوص التي تغنيها، فهي صاحبة موقف يفرض عليها رؤية تحدد ما تختار، وما لا تختار. وتحدد متى تقدم هذا النص، وكيف تقدمه.

نحن إذن أمام متلقٍ عليم ينتقل بالنصِّ من حال السكون إلى حال الحيوية والنشاط والتأثير. وسوف يطبق المؤلف ذلك على “شوقيات أم كلثوم” و”الأطلال”، وعلاقة ذلك بالأيديولوجيا، فدور أم كلثوم في تاريخ التلقِّي هو جزء من تاريخ الأدب، ودورها في تاريخ الغناء هو جزء من تاريخ الفن في بلادنا، وتاريخ الأدب وتاريخ الفن هو الوجه الحضاري الثقافي لمصر ذات العراقة في التاريخ وريادة الحضارة.

ويتحدث المؤلف عن “دائرة الوعي الكلثومي” ويكشف هذا المصطلح – الذي أعتقد أنه من بنات أفكار المؤلف أحمد يوسف علي – عن استجابة أم كلثوم لمبتكراتِ وقتها، وتفاعلت معها، فقدمت الأغنية القصيرة والسريعة التي طبعت على أسطوانات، وقدمت أغنية الأفلام، كما قدمت الوصلات الغنائية الطويلة عبر الإذاعة المصرية، والتفتت التفاتة قوية إلى أغنية الحفلات الغنائية على المسرح، وهي أغان طويلة مركبة كلمات ولحنًا وأداءً.

وأستطيع أن أضيف إلى دائرة الوعي الكلثومي ما قاله عنها نجيب محفوظ: “كانت أم كلثوم لديها النية لتقديم ‘أوبرا’ عن إحدى رواياتي الفرعونية، فأهديتها رواية ‘رادوبيس’ وكانت تفكر في أن يغني أمامها محمد قنديل. ولكنها شُغلت في موضوعات أخرى، ثم رحلت في 3 فبراير عام 1975”.

وما دمنا في رحاب أم كلثوم ونجيب محفوظ أستطيع أن أضيف أن محفوظ قال عنها: “أم كلثوم لم تكن ملحنةً ولا موسيقية، لذلك يجب أن نتكلم عنها مع فئة المؤديات. غاية ما في الأمر أنها حنجرة كبرت أكبر من اللازم – أشبه ما تكون بالعضلات الخارقة – حتى سيطرت على الألحان والملحنين، فكانوا يقدمون لها ألحانًا يعلمون أنهم لا يستطيعون تقديمها لغيرها، وهكذا قدمت ألوانا شديدة الاختلاف. فحين تغني لزكريا أحمد يُخيل إليك أنها كلاسيكية، وحين تُغني لمحمد القصبجي يُخيل إليك أن فيها عرقًا تركيًّا، والسنباطي له لونه وطابعه معها، وهكذا”.

ونعود إلى كتابنا “أم كلثوم الشعر والغناء” لنجد أن أم كلثوم في كل ما قدمته مؤمنةً بدور الكلمة وسلطتها على وجدان المتلقين العرب، وهم يعيشون زمن إعادة الوعي بتاريخهم وتراثهم من ناحية، ومن تطلعهم إلى الحرية والاستقلال والأخذ بأسباب التقدم من ناحية أخرى. ولم تستجب لِمَا هو سائد من غناء في الصالونات وأوكار الليل، فانتقت الكلمة زجلاً وشعرًا، حين غنت للزجالين من مثل بيرم التونسي، ولشعراء الأغنية مثل أحمد رامي، ولشعراء الفصحى الكبار مثل الشريف الرضي وشوقي وحافظ.

ويوضح لنا المؤلف أن عدد ما غنته أم كلثوم من شعر العربية الفصحى يصل إلى خمسةٍ وتسعين نصًّا، لسبعة عشر شاعرا.

وهنا نفرّق بين فريقين من الشعراء: فريق كتب خصيصا لأم كلثوم مثل رامي وعبدالله الفيصل وجورج جرداق والهادي آدم. وفريق لم يكتب لها مطلقا ولكنها اختارتْ نصوصًا من قصائدهم لتغنيها مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي من المعاصرين في مصر.

وحينما كانت أم كلثوم تختار قصائد لتغنيها، فإنها تُدخل الكلمات في نسيج فنين آخرين هما؛ فن الأداء الغنائي، وفن الموسيقى، وكلاهما يشدُّ بعضُه بعضا.

وهي حين غنت للشعراء، كانت لديها أشكالٌ غنائية معروفة، وهي الدور والطقطوقة والموَّال والموشح والمونولوج والقصيدة الشعرية، ومع أنها غنَّت الدور والطقطوقة والمّوال والموشح والمونولوج، فإنها انحازت منذ بدايتها إلى القصيدة، وفي هذا تقول: “أعتقد أن أهم ما يُكتب عني بعد موتي، أنني نقلتُ الجمهور من الإسفاف الذي كان يعيشه إلى مستوى ‘إن حالي في هواك عجب’، و’الصبُّ تفضحه عيونُه’، و’رباعيات الخيام'”.

أما القصائد الطويلة التي غنتها أم كلثوم، فبلغ عددُها تسعَ عشرة قصيدة، تتفاوت من حيث الطول، ما بين “ولد الهدى” 34 بيتًا لشوقي 1946، و”صوت الوطن” 20 بيتًا لرامي 1952. ويعلِّل المؤلف أسباب هذا التفاوت الواسع بأنه اقتضته سماتُ النوع الغنائي من جهة، وظروف الإنتاج والتلقِّي من جهة أخرى.

ويلاحظ المؤلف أن القصائد الأطول هي القصائد التي تتغنى فيها أم كلثوم بالعاطفة الدينية، وهي (“ولد الهدى” 34 بيتًا، “نهج البردة” 30 بيتًا، “رباعيات الخيام” 30 بيتًا، “حديث الروح” 28 بيتًا، “الثلاثية المقدسة” 27 بيتًا، “إلى عرفات الله” 25 بيتًا، “سلوا قلبي” 21 بيتًا).

أما القصائد ذات السمت الوجداني في هذه المجموعة من القصائد الطويلة، فهي سبعُ قصائد، وهي (“الأطلال” 32 بيتًا، “أقبل الليل” 27 بيتًا، “أغار من نسمة الجنوب” 27 بيتًا، “قصة الأمس” 25 بيتًا، “هذه ليلتي” 25 بيتًا، “من أجل عينيك” 24 بيتًا، “ذكريات” 23 بيتًا).

ولكلِّ قصيدة من هذه القصائد قصة مع أم كلثوم.

أما القصائد متوسطة الطول، فتبدأ بتسعةَ عشرَ بيتًا، وتنتهي بخمسةَ عشرَ بيتًا، وعددها خمس عشرة قصيدة، أطولها “نشيد الشباب” لرامي 19 بيتًا 1946، وأقصرها نص “قم واسمعها” لصالح جودت 15 بيتًا 1967 (وكانت بمناسبة تنحي الرئيس جمال عبدالناصر).

القصائد القصيرة بدأت بأربعةَ عشر بيتًا، وانتهت بأحد عشر بيتًا، وعددها أربعٌ وعشرون قصيدة، من أطولها “نشيد الجيش” لطاهر أبوفاشا 14 بيتًا 1959، ومن أقصرها “أراك عصي الدمع” لأبي فراس الحمْداني 11 بيتًا 1964.

بالإضافة إلى ذلك غنَّت أم كلثوم عددًا من المقطوعات الشعرية التي تتراوح ما بين عشرة وأربعة أبيات، ويغلب على هذه المقطوعات الغناءُ العاطفي، مثل “الصبُّ تفضحه عيونه” لرامي 9 أبيات 1924.

ومن خلال هذه القصائد يلاحظ المؤلف أن أم كلثوم غنت للوطن (مثل: “مصر التي في خاطري” لرامي، و”النيل” لشوقي، و”على بابِ مصر” لكامل الشناوي، و”مصر تتحدث عن نفسها” لحافظ)، وللعواطف الفردية (مثل: “الأطلال” لناجي، و”هذه ليلتي” لجرداق، و”من أجل عينيك” للفيصل)، وللعاطفة الدينية (مثل: “ولدى الهدى” لشوقي، و”حديث الروح” لإقبال، و”تَوبة” لعبدالفتاح مصطفى)، وللمناسبات الخاصة (مثل “أشرقتْ شمسُ التهاني” وغيرها).

آراء أم كلثوم

يتحدث المبحث الثالث في الكتاب عن “شوقيات أم كلثوم”، ويعني بها المؤلف القصائد التسع التي غنتها أم كلثوم لشوقي بعد رحيله. وجاء هذا المبحث بعنوان “شوقيات أم كلثوم بين التلقِّي وتاريخ الأدب”. أما “الشوقيات” فهو مصطلح ذو نسب أصيل بأحمد شوقي وبديوانه.

وأشير هنا إلى أن أمير البيان شكيب أرسلان هو الذي اقترح على شوقي أن يسمي ديوانه “الشوقيات”. يقول أرسلان: أشرتُ على شوقي بأن يجمع قصائده ويجعل منها ديوانًا يسير في الأقطار، فسألني: وأي اسم أُعطيه؟ فقلت له: سمِّه بالشوقيات، فنسبة هذا الشعر إليك هي عندي كافية. ولما جَمع ديوانَه أطلق عليه اسم “الشوقيات” كما أشرتُ عليه، وقد ذكر هذه القصة في ديوانه، الطبعة الأولى سنة 1898.

ويرى أحمد يوسف علي أن تداول المصطلح يعطيه مفاهيم إضافية أو مغايرة للمصطلح الشائع. “فالشوقيات” أصبح مصطلحًا دالا أيضا على شخصية فذّة في تاريخ الشعر والإبداع.

ويشير إلى أن إضافة الشوقيات لأم كلثوم تعني اختصاصَها بها، وتعلقَها بتاريخِه الغنائي، كما تعني أيضا لونًا من التلقي الغنائي لنص شعري لم يكتبه شاعره للغناء.

ويفرِّق المؤلف بين “شوقيات عبدالوهاب”، و”شوقيات أم كلثوم” فالأخيرة أساسُها الاختيار والانتقاء وتكوين النص تكوينًا يتفق مع فن الأداء الغنائي القائم على الشفاهية والمباشرة من جانب، وعلى التوقيع الموسيقي من جانب آخر.

ويتساءل المؤلف: لماذا لم تغنِّ أم كلثوم لأحمد شوقي أثناء حياته مثلما غنى محمد عبدالوهاب؟ فنحن نعرف أن أم كلثوم غنت لشوقي تسع قصائد اعتبارا من عام 1936 بينما شوقي رحل عن عالمنا في أكتوبر من عام 1932. كما يتساءل المؤلف: لماذا غنَّت أم كلثوم لشوقي هذا العدد من القصائد (تسع قصائد) ولم تغن لغيره مثل هذا العدد؟

من خلال كتاب “أم كلثوم الشعر والغناء”، وبعض مراجعه ومصادره، أستطيع أن أقدم تلك الإجابة أو الخلاصة أو الرؤية عن العلاقة الفنية بين شوقي وأم كلثوم، تقول أم كلثوم: شوقي عندي هو شاعر الشعراء، فقد جمع أعظم ما في الشعر العربي من خصائص أصيلة. وهذا ما دعاني إلى بعثه – بعد رحيله – وتصديره إلى قلب الأحداث، وكأنه لم يمت، وراح يكتب ما أغنيه من نصوص، كان هاجس الاستجابة للتغيير وراء إعادة إنتاجها، مثل “سلوا قلبي” وغيرها من النصوص التسعة التي غنيتها لشوقي، وهي نصوص في حال دائم من الديمومة والصيرورة.

ولقد ظللتُ على عهدي بشوقي لا أُقارن به أحدًا من الشعراء، ولا يحتل مكانَه عندي أحد. وكنت أقتني دواوينه وأضعها بجانب فراشي، وأقول إن ثروة مثل هذه يجب أن تكون دائما في متناول يدي. وكانت قصائد شوقي آخر ما يحتضن عقلي وعيني قبل النوم. وكنت لا أكاد أسمع عن مسرحية مما كتب تُمثَّل في مسرح الأوبرا حتى أذهب لرؤيتها عدَّة مرات. فأنا متعصبةٌ لشوقي تعصبًّا لا حدَّ له، فلم يَجُد الزمانُ بمثله، إنني أضعه في مرتبة تسبق مرتبة البحتري والشريف الرضي وعمر بن أبي ربيعة. إنني أعرف قدره وقدر حافظ إبراهيم الذي غنيت له “مصر تتحدث عن نفسها”.

وقد شعرتُ بأن دوائر الوعي عند شوقي هي نفسها دوائر الوعي عندي، وأن كلينا يتوسل بالكلمة، كما يتوسل بالنغمة، وأن لغةَ كلينا وُلدت في محراب القرآن الكريم، ولغة الشعر العربي. لذا كان شوقي القِبلة الأولى التي توجهتُ إليها، ومن فوق منبرها تغنيتُ بعيد جلوس الملك فاروق (1936).

ولا أنسى يوم زارني في بيتي – قبل رحيله عام 1932 – وأهداني قصيدة “سلوا كؤوس الطلا”، بعد أن زرته وغنيتُ في بيته “كرمة ابن هانئ”، في حفل زفاف ابنه الأكبر علي في حفل السيدات.

وقد تلقيتُ “سلوا كؤوس الطلا” كما فاض بها شوقي، غير أني لم أغنها إلا في عام 1946، أي بعد رحيل شوقي بأربعة عشر عاما. والبعض يخلط بينها وبين قصيدة “سلوا قلبي” التي غنيتُها لشوقي أيضا.

عندما قررتُ غناء “سلوا كؤوس الطلا” قمتُ بتغيير موضعين هما: الشطر الثاني من البيت الرابع الذي كتبه شوقي “وينثني فيه تحت الوَشْي عِطفاها” ليكون “ويُلفتُ الطيرَ تحت الوَشْي عِطفاها”. والموضع الثاني في صدر الشطر الأول من البيت التاسع والأخير، فقد كتبه شوقي وذكر فيه اسمي قائلا “يا أمَّ كلثوم أيامُ الهوى ذهبت” ليكون “يا جارةَ الأيكِ أيامُ الهوى ذهبت”.

أما قصيدة “سلوا قلبي” فقد كانت لقائي الحقيقي مع شوقي. أما “نهج البردة” و”الهمزية” فقد كانتا مدحًا خالصًا يستلهم الذائع والمشهود به من سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام عبر التاريخ والمستقر في وجدان المسلمين وغير المسلمين. وتكتمل دائرة المدح المحمدي عند شوقي بقصيدة “إلى عرفات الله” وقدمتُها عام 1965.

لقد انحزتُ لـ”نهج البردة” أكثر من “بردة” البوصيري، رغم أن الأخيرة ذائعةُ الصيت أكثر من قصيدة شوقي. وقد كان اختياري محكومًا بسياقه التاريخي والثقافي، وبسياق القصيدة نفسها، حيث اخترتُ 30 بيتًا من 190 بيتًا هي مجمل أبيات القصيدة.

أما في الهمزية فقد اخترتُ 34 بيتًا من بين 129 بيتًا، وقمتُ بتبديل كلمة الفوز في قول شوقي: “يوحي إليكَ الفوزُ في ظلماتِه” لتصبح النور، فقلت “يوحي إليكَ النورُ في ظلماتِه” وذلك في البيت الأول.

وفي “إلى عرفات الله” اخترتُ 22 بيتًا من بين 42 بيتًا هي مجمل قصيدة شوقي، وحاولت تحويل الخطاب من الخاص إلى العام، فقد كان شوقي يوجه قصيدته إلى الخديوي عباس بن محمد قائلا:

إلى عرفاتِ الله يا ابن محمدٍ/ عليكَ سلامُ الله في عرفات.

فحولته إلى “إلى عرفات الله يا خيرَ زائر”.

أما في قصيدة “النيل” فقد اخترتُ 24 بيتًا من بين 153 بيتًا هي مجمل قصيدة شوقي.

وأعرف أن قصائد شوقي التي اخترتها لم تكن مكتوبةً للغناء، ولم يكن شوقي على قيد الحياة عندما غنيتُها، ولكن قناعتي بشوقي – شاعرًا – كانت فوق كل اعتبار.

لقد وجدتُ عند شوقي بُغيتي في العاطفة القومية نحو مصر التي تفانيتُ في التغني بها، ووجدتُ عنده العاطفة الدينية في أبهى مجاليها نحو الرسول الأكرم وآل بيته وصحابته، ونحو البيت الحرام وكل البقاع المقدسة، ووجدتُ عنده ذلك النظر العام للرابطة الدينية بين المسلمين في كل أنحاء الأرض، وصورة الكنانة الفريدة في قصائده الدينية والتاريخية التي استهوتني، كما استهواني إيمانُه بالعروبة والعربية وجمالِها في شعره.

كنت أفتِّشُ – وأنا أقرأ في شعر شوقي – عن مكنوناتي القومية والاجتماعية والدينية، وعن الخطاب الشعري الذي يجسّد هذه المكنونات، ويجعلها جليةً على مسامع الناس وأبصارهم.

كنت أؤمنُ بوظيفة الغناء الاجتماعية التي تنطلق من مواكبة الفنان للأحداثِ الجِسام التي تمثل التطور الاجتماعي لمصر، فكان شوقي صوتَ مصر الحاضر في كل أنشطتها ومجاليها، وصوت القومية العربية، وصوت الرابطة الإسلامية، وهمزة الوصل الكبرى بين كل هذه المستويات، وشعوب العالم في آسيا وأفريقيا وأوروبا، فهو شاعر الشرق في أفراحه وأتراحه.

بطبيعة الحال غنيتُ لشعراء آخرين غير شوقي، ولكن شوقي كان أبرزَهم وأغناهم وأكثرَهم حضورًا في القصائد التي غنيتُها. ولقد انحزتُ للغنائية وإلى الشكل الهندسي للقصيدة، سواء في شعر شوقي أو غيره من الشعراء الذين غنيتُ لهم”.

أما “أطلال” أم كلثوم فلها حديث آخر، فتحت عنوان “أم كلثوم تؤلِّف الأطلال” يتساءل المؤلف: ماذا امتلكت أم كلثوم من مؤهلات وفّرت لها قدرتَها على الانتقاء والتركيب والبناء؟

ونحن نعلم أن أطلال أم كلثوم التي شدت بها عام 1966 – بألحان الموسيقار العظيم رياض السنباطي – تألَّفت من قصيدتين لإبراهيم ناجي هما: قصيدة “الأطلال” من ديوان “ليالي القاهرة” وقصيدة “الوداع” من ديوان “وراء الغمام”، بعد الحذف والتعديل والتقديم والتأخير والمزج والترتيب، طبقًا للطريقة التي اختارتها أم كلثوم لتصلَ إلينا “الأطلال” كما نسمعها الآن، بكل هذه الروعة والجمال والبهاء، فكوَّنت نصًّا شعريًّا جديدًا له هيكله وبناؤه وملامحُه التي لا تعرفها “أطلال” ناجي، ولا يعرفها قارئ الأطلال في ديوان “ليالي القاهرة”.

ويؤكد المؤلف أن أمَّ كلثوم مارستْ هذا بنفسها، وليس من فعل أو اختيارات أو تدخلات أحمد رامي أو صالح جودت أو طاهر أبوفاشا أو غيرهم من الشعراء المعاصرين لها، كما يُشاع في بعض الأحيان. لقد كانت لأم كلثوم ذائقةٌ ثقافية وأدبية وشعرية وموسيقية وغنائية خاصة جدا، تجسدت في “الأطلال” وغيرها من الروائع.

وهذا ما يوضح صلة الخطاب الشعري بالأيديولوجيا عند أم كلثوم، وهو الفصل الذي يختم به المؤلف كتابَه المهم “أم كلثوم الشعر والغناء”، مؤكِّدًا على أن النصوص التي غنتها أم كلثوم رسَّخت – ولا تزال – أن مصرَ أم الدنيا، وأنها مبتدأُ التاريخ، ومهدُ الحضارة، وأرضُ النبوّات، وركنٌ ركين للعروبة والإسلام، وأنها وطنٌ التعايش في ظل الاختلاف، وأنها وطنٌ باقٍ لا يزول، لأنَّ الله حفظه.