وعدت الولايات المتحدة بأن يكون غزوها للعراق عام 2003 بمثابة فجر لعهد جديد من الديمقراطية، لكن بعد مرور عشرين عاما يقول عراقيون من مختلف المجموعات الطائفية والعرقية والسياسية في البلاد إنهم لم يقطفوا أي ثمار، مجمعين على أن من حكم البلاد طيلة العقدين الماضيين أسوأ من نظام الراحل صدام حسين.
في عام 2007 ذهب ناصر وزميله في فريق لكرة القدم إيهاب كريم إلى السوق في بغداد لشراء أحذية كرة قدم جديدة قبل بدء موسم الدوري العراقي الممتاز. في نهاية اليوم، صار كريم في عداد الموتى وفقد ناصر ساقيه. وانفجرت إحدى القنابل العديدة التي دمرت العاصمة العراقية في سنوات العنف التي تلت الغزو بينما كان الشابان الشيعيان يقفان لتناول شطائر وقتلت القنبلة كريم وغيرت حياة ناصر إلى الأبد.
وقال ناصر، الذي يلعب الآن كرة السلة على كرسي متحرك ضمن أحد الفرق البارالمبية، "كان من الأفضل لو بقي صدام (حسين)، ما كنت سأفقد ساقي.. ما كان هذا ليحدث أبدا لأنه لم تكن هناك أي طائفية في ظل حكمه". وكان مهند لفتة يحرص في شبابه على تعليق ملصقات للرئيس الراحل صدام حسين، ليس لأنه يدعمه بل لتجنب تداعيات اعتباره منشقا مثل والده الذي أُعدم بسبب معارضته للنظام البعثي. لكن الإطاحة بصدام الذي حكم العراق لعقود لم تبشر بفترات أفضل.
وقال الموظف الحكومي لفتة (51 عاما) "أتمنى أن أقول لوالدي، الذي أُعدم بسبب مبادئه ورفضه لحكم البعثيين، إن من يحكمون البلاد اليوم هم أكثر وحشية". وفي عام 2006 اندلعت أعمال عنف طائفية في حي لفتة الذي كان أغلب سكانه من السنة في بغداد بعد أن دمر هجوم بقنبلة مسجدا للشيعة. وجاب مسلحون شيعة الشوارع واضطرت عائلته إلى الرحيل.
وقال "اعتقدنا أننا سنرتاح، لكن ليس هناك من يشعر بالراحة في العراق”، واصفا كم الرعب الذي عاشته زوجته وأبناؤه عندما أمطرت قذائف الهاون منزلهم الجديد، مما أجبرهم على الرحيل مجددا. وأضاف "لا أريد أن يكبر أبنائي في بلد تطحنه رحى الحروب والفساد والطائفية. لا أريد أن يعانوا مثلي".
وكما هو الحال بالنسبة إلى لفتة كانت كل الأسباب تدفع أراس عبيد إلى الرغبة في الإطاحة بصدام حسين من السلطة بعد أن صار الناجي الوحيد من عائلة مؤلفة من 12 فردا إثر هجوم بالغاز استهدف مجتمعه الكردي في عام 1988. لكنه يقول إن تخليص الأمة من صدام لم يخلق سوى حالة من الفوضى استغلها آخرون لاستنزاف خيرات البلاد. وقال "في ظل النظام البعثي كانت هناك عائلة واحدة تسرق ثروات البلاد. الآن هناك الآلاف من الصدّاميين ينهبون.. لا يمكنني التعامل مع هذا الوضع. انتهت حياتي".
بعد هجوم حلبجة الكيمياوي عام 1988، بحث عبيد في مسقط رأسه عن جثث عائلته. وقال "كانت هذه أختي أواس، كان هذا أخي سيرياس، وكان هذا جدي، ثم رأيت أمي وبين ذراعيها طفل". كان الطفل هو شقيقه (ستة أشهر) الذي توفي بينما كان يرضع في حضن أمه.
إثر الإطاحة بصدام أقام الأكراد منطقة تتمتع بحكم شبه ذاتي في شمال العراق، مما جذب استثمارات في النفط والغاز. لكن الخلافات دبت بين الحزبين الكرديين بشأن الثروات، وعندما أجرى الأكراد استفتاء على الاستقلال عام 2017 أمرت بغداد قواتها بالسيطرة على مساحات من الأراضي وقطع التمويل عن المنطقة. وقال عبيد "قضيتنا ضاعت بين السياسيين.. لقد هُزمنا مرة أخرى".
حال الناشط البيئي جاسم الأسدي كحال المئات من النشطاء حيث تعرض للسجن والتعذيب في عهد صدام بسبب رفضه إعلان الولاء لحزب البعث. وعاد إلى ذهنه الشهر الماضي الرعب عندما خطفه رجال مسلحون وعذبوه. وكان الأمر هذه المرة أسوأ. وقال المهندس الهيدروليكي (65 عاما) "تقنيات التعذيب التي تعرضت لها فاقت المستويات التي مارسها البعثيون بحق السجناء"، واصفا كيف تم تعصيب عينيه وتصفيد يديه وضربه بالهراوات وصعقه بالكهرباء ووضعه في حبس انفرادي.
فايزة سرحان (50 عاما)، وهي من طائفة الصابئة المندائيين القديمة، قالت إن سبعة من أفراد عائلتها شُنقوا في عهد صدام لانتمائهم إلى الحزب الشيوعي. وإبان عهد الرئيس الراحل كان هناك تسامح مع الأقليات ولم يتم نبذها بسبب معتقداتها الدينية، ولكن كانت تتعرض للاضطهاد حال معارضة الحكومة.
وبعد سقوط صدام استهدف إسلاميون تلك الأقليات بسبب معتقداتها الدينية ووصفوا أفرادها بالمرتدين أو عبدة الشيطان. ولا تنسى فايزة القمع والحروب والعقوبات في عهد صدام، لكنها تتوق إلى الأمن المحكم الذي كان يفرضه. ومنذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة أصبح مجتمعها، الذي يعمل الكثير من أفراده في تجارة الذهب، ضحية للجرائم. وغادر الكثير من أفراد الأقلية البلاد بسبب عدم تحقيق العدالة.
واستُهدف المسيحيون والصابئة المندائيون والإيزيديون وغيرهم من الأقليات بعمليات خطف وقتل خلال الحرب الأهلية الطائفية التي دارت رحاها من عام 2006 إلى 2008. وتقول فايزة التي تدير الآن مركزا ثقافيا لمجتمعها في العراق إن 15 ألفا فقط من أبناء الطائفة لا يزالون في العراق، مقارنة بسبعين ألفا قبل عام 2003. وهاجر الباقون.
عاش خالد علوكا في عهد صدام لكن لم يكن هناك ما يوحي له بأن أبناء طائفته قد يتعرضون للذبح بعد سقوط صدام. في عام 2007 أنزل مسلحون تابعون للقاعدة 24 رجلا إيزيديا، من بينهم اثنان من أبناء عمومته، من حافلة وقتلوهم، تاركين الأطفال الصغار. وخوفا من التعرض للمصير ذاته حبس نفسه وأبناءه الأربعة في منزلهم لأسابيع عندما فرض تنظيم الدولة الإسلامية -الذي اعتبر الإيزيديين عبدة الشيطان - حكمه المتشدد في شمال العراق عام 2014 وقتل الآلاف.
وقال علوكا "لدينا إنترنيت وسيارات فارهة لكن الوضع الأمني تدهور.. مصير العراق مجهول". وطُردت الجماعة الجهادية من المنطقة في عام 2017 لكن الكثير من الإيزيديين لا يزالون يعيشون في مخيمات ويخشون العودة. واضطر علوكا لإرسال أبنائه إلى تركيا قبل أن يطلبوا اللجوء في كندا. وبقي هو وزوجته، وكلاهما يعمل في التدريس. وقال عبر الهاتف من منزله في بلدة بعشيقة شمال العراق “لا نريد لأبنائنا أن يعيشوا الحياة المريرة التي عشناها”.