لم يجد الشاب المصري أحمد كمال وسيلة للتعامل مع الزيادة المتوقعة في أسعار السلع بعد قرار البنك المركزي تعويم الجنيه مرة ثالثة، الخميس، سوى السخرية من الحالة التي يعيشها وأمثاله من المنتمين للطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
وقال كمال لـ”العرب” بتهكم إنه نام ليلة الأربعاء وهو فرح مع شيء من الحذر عقب ارتفاع راتبه بعد أن أقرت الحكومة زيادة قدرها 300 جنيه على مرتبات العاملين بالدولة، وصدق حدسه وحذره فعندما استيقظ صباح الخميس فوجده انخفض بما يفوق نسبة الزيادة التي جاءته عندما علم أن قرار التعويم قلص قيمة الجنيه بـ15 في المئة.
تعامل كمال، وغيره كثيرون، مع هذا التناقض بسرد العديد من النكات الضاحكة التي تبين عمق الاستسلام لقرارات الحكومة، وحشد عدد كبير من المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي العديد من العبارات الساخرة، على طريقة “شر البلية ما يضحك”، لأن أيّ رفض أو اعتراض لن يغير في الأمر شيئا.
شرعت الحكومة المصرية في تطبيق قراراتها على الفور وبدأ التجار الجشعون يسنون سيوفهم لزيادة الأسعار، ما يجعل خسارة 15 في المئة جديدة من قيمة الجنيه مضاعفة.
وتوقعت جماعة الإخوان التي دعت إلى تظاهرات في الحادي عشر من نوفمبر المقبل أن يمثل التعويم الثالث خلال ست سنوات فقط داعما لهم، ومدخلا مناسبا للتجاوب مع خطابها، لكن تفاعلات شريحة كبيرة من المصريين لم تترك أثرا لذلك، حيث طغت المفردات التي تعبر عن القبول بالأمر الواقع والتعايش معه.
ولدى المصريين فائض كبير من الصبر في التعامل مع الأزمات، وقدرة عجيبة على التكيف مع روافدها، فهناك من يتعامل معها بالسخرية والنكات، وهناك من يلوذ إلى الله بالدعاء، أو زيارة مقامات آل بيت النبي محمد (ص) كما رصدها عالم الاجتماع الراحل سيد عويس في كتابه “هتاف الصامتين”، بهدف كشف البلاء وزوال الغلاء.
وفهم متابعون أن زيادة المرتبات في الليلة السابقة عن تعويم الجنيه جاءت لتفريغ دعوات التظاهر من معناها، وتوقعوا أن تؤدي إلى تسخينها بدلا من تبريدها، حيث استنتج هؤلاء أن النظام المصري يخشى من عواقب التظاهر في الشارع.
ودحض تعويم الجنيه وحزمة القروض الجديدة هذه الفكرة، فما قدمته الحكومة للمواطنين باليمين أخذته باليسار، ما يعني أن الخطوة لا علاقة لها بالتظاهر، وأن النظام الحاكم وضع خطة يمضي فيها دون اكتراث بتحريض على التظاهر، كأنه يعلم ردود الفعل، رغم فداحة ما خلفته الأزمات الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية.
ويلجأ العقل الجمعي في مصر خلال الظروف الصعبة إلى التعامل معها بطرق تحايلية متباينة، وقد يكون آخر شيء يمكن اللجوء إليه هو العنف وتوابعه، حيث تركت جماعة الإخوان صورة سلبية لن تمكنها من الحصول على تجاوب كبير معها من المواطنين.
كما بعث احتكاك المصريين السنوات الماضية بأبناء جنسيات عربية دمرت دولهم أو كادت بإشارة تجعلهم على قناعة أن التظاهرات تمهد الطريق للفوضى والإخوان معا.
لكن عندما يتسع نطاق التهكم، فهذا دليل على شيوع غضب الصامتين، وهو ما يحوّل النكتة من وسيلة للضحك إلى أداة للتفسير السياسي، وهناك دراسات مصرية أجريت على النكتة السياسية كشفت العلاقة الطردية بين السخرية وهامش الحريات.
وتكمن الخطورة هنا في ما تحمله السخرية والتهكم والنكات من رفض يمكن أن ينتقل في أيّ وقت من المربع الضمني إلى الصريح، خاصة إذا لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية وتتغير الحالة الاجتماعية وفقا للوعود التي تطلقها الحكومة من حين إلى آخر، فانفجار الضحك في كنف الأزمات بات مؤشرا سلبيا في مصر.
وربط مراقبون بين الحالة الراهنة ونظيرتها خلال فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر عندما ازدهرت النكتة السياسية، وخضعت لتحليل مضمون كشف عن تدهور صورة الزعيم والبطل والملهم في الوجدان الشعبي، وهذا لم يمنع الناس من المطالبة باستمراره، فلم تكن السخرية أو الغضب من شخصه، بل من بعض السياسات، وما عرف بمراكز القوى في نظامه، والتي سعى في سنواته الأخيرة إلى التخلص منها.
ولا توجد لدى شريحة كبيرة من المصريين الآن مواقف صارمة ضد الرئيس عبدالفتاح السيسي ويعرفون دوره في إنقاذ البلاد، وكل ما يريدونه تعديلات في بعض السياسات والأشخاص وفهم دقيق للمعاني التي يحملها الإسراف في السخرية وترديد النكات، ما يجهض فرص التجاوب مع دعوات الإخوان للتظاهر بعد أيام أو شهور.