عرب وعالم

الثلاثاء - 18 أكتوبر 2022 - الساعة 07:05 ص بتوقيت اليمن ،،،

العرب


لا يعتبر الحديث عن الفساد في العراق أمرا غريبا، حيث اعتاد العراقيون منذ سنوات على صدور تقارير وتسريبات كل فترة تثير الجدل، لكن خبر اختفاء مليارين ونصف دولار الآن وفي هذا الظرف لم يثر الصدمة فحسب وإنما أثار جملة من الاستفهامات في مقدمتها أين كانت الحكومة من كل هذا.


لا يستطيع رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي القول إنه لم يكن على علم بعمليات النهب التي أدت إلى سرقة 2.5 مليار دولار من أمانات الهيئة العامة للضرائب في مصرف الرافدين الحكومي.

والسؤال التالي هو: لماذا لم يفعل شيئا؟ لماذا لم يكشف عما صارحه به وزير المالية بالوكالة إحسان عبدالجبار بشأن عمليات السرقة، ولم يتخذ الإجراءات التي توقف ما كانت تفعله “العصابة المنظمة” التي تقف وراء تلك السرقة؟

السؤال الآخر، قد يطال الوزير المسؤول نفسه، وهو: لماذا تنكشف الفضيحة الآن، وليس منذ بدايتها في سبتمبر 2021؟

ما من حزب شارك في العملية السياسية، إلا وكان له نصيب من أعمال النهب. وهناك مافيا عابرة للطوائف، تمكنت على مر السنوات من تدبير الوسائل لتسريب الأموال عن طريق شركات وهمية، ومشاريع لا وجود لها، فضلا عن عشرات الآلاف من الموظفين والمنتسبين والجنود “الوهميين” الذين لا وجود لهم لأجل أن تذهب رواتبهم إلى جيوب قادة هذه الميليشيات والأحزاب. وهو أمر بدأ من أول سلطة بول بريمر في العام 2003 وبقي مستمرا لنحو عقدين من الزمن، حتى تغلغل الفساد في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها ومديرياتها وصولا إلى أصغر الدوائر الحكومية.

وبرغم أن سجلات النهب باتت مكشوفة، ولكن بقي من الملفت للانتباه أن الكشف عنها لا يتم إلا بعد أن تكون الأموال المنهوبة قد تسربت إلى الخارج، وإلا بعد أن يكون المسؤولون المباشرون عن العمليات قد فروا خارج البلاد.

حيدر العبادي رئيس الوزراء السابق لم يكشف عن ضياع 400 مليار دولار من عائدات البلاد، إلا بعد انقضاء سلطة سلفه نوري المالكي في العام 2014. ولم تتم إعادة درهم واحد من تلك الأموال، ليس لأنها دخلت في دهاليز الغيبة، فحسب، بل لأن مدبري العمليات أنفسهم اختفوا، وهم يحملون الآن أسماء جديدة وجوازات سفر لدول أخرى، ولم يعد بإمكان سلطات القضاء أن تلاحقهم، لأنها لا تعرف أماكن وجودهم أو هوياتهم المزيفة الجديدة. حتى بدا أن أمر “الكشف” المتأخر عن عمليات الفساد، هو نفسه وجه آخر من وجوه الفساد لـ”تصفير” الحسابات، ورمي عبء “المنهوبات” على كتف متهم كائن مجهول، لا على كتف أشخاص محددين يقفون وراءه، اسمه “الفساد”.

مافيا الفساد، التي امتلكت نفوذا على جميع مؤسسات الدولة ومراكزها، تملك أيضا نفوذا على أجهزة التحقيق والملاحقات والتدقيق والرقابة والمساءلات البرلمانية، كما تملك وسائل شتى للابتزاز، وهو ما كشف عنه الوزير عبدالجبار الذي قال “كاشفت أعلى الشخصيات في العملية السياسية عن حجم السرقة الحادثة في الأموال العامة، إلاّ أنّ الحرب (ضده) كانت تزداد بشدة وبكل الوسائل، وكانت العصابات التي سرقت المال العام تشيع في كافة الأوساط مبكرا ما سيتم اتخاذه ضدي من إجراءات”.

واتهم عبدالجبار “جهات في البرلمان” بالتواطؤ مع الأطراف التي نفذت عملية السرقة، قائلا “في بداية عملي في وزارة المالية تزامن مع حرب شرسة استخدمت فيها كل الأدوات غير النزيهة، من بعض القنوات الإعلامية المدفوعة من أموال الضرائب، ومعها احتراب وتأليب سياسي واضح، تمثل بمجموعة من التصرفات والتصريحات المتشنجة، والسباق مع الوقت من قبل بعض المتحمسين في مجلس النواب للإسراع في إزاحتي من إدارة الوزارة”.

السؤال الذي يواجه عبدالجبار الآن هو: لماذا لم يستقيل في ذلك الوقت؟ ولماذا أبقى الأمر رهنا بـ”المكاشفات مع أعلى الشخصيات”؟ ومن هي تلك الشخصيات؟ وما هي حدود تورطاتها أو مسؤولياتها أو علاقتها بتلك العصابة التي دبرت السرقات؟ ومن هم “المتحمسون” الذين لاحقوه بالتهديدات؟

وكيل وزارة المالية العراقية طيف سامي محمد كشف بدوره عن سلسلة وثائق أظهرت أن خمس شركات عراقية متورطة في اختلاس ذلك المبلغ. والشركات هي “شركة القانت للمقاولات العامة” و”الحوت الأحدب للتجارة العامة” و”رياح بغداد للتجارة العامة” و”المبدعون للخدمات النفطية” و”بادية المساء للتجارة العامة”.

من هم المسؤولون عن هذه الشركات؟ وأين هم الآن؟ وهل تم القبض على أي أحد منهم؟ وإلى أين أرسلت هذه الشركات الأموال التي نهبتها؟ وما هو التبرير الذي قدمته للحصول عليها؟ أو من أجل ماذا تم إنفاقها؟ ومن هم الشركاء الذين يقفون وراء العملية؟ وما هو “الإبداع” في عملياتهم وعمليات الشركات الأصغر المرتبطة بهم؟

وكيل الوزارة قال إن “المبلغ الذي جرى سحبه من قبل الشركات تم خلال الفترة بين التاسع من سبتمبر 2021 وحتى الحادي عشر من أغسطس الماضي، بموجب 247 صكا حررت جميعا إلى الشركات الخمس، وقد تم سحب المبلغ نقدا من قبل مخولين لحساب الشركات وفق صكوك نُظمت خلافا للقانون”.

والسؤال هو، كيف مرت كل هذه الصكوك، وهي خلاف للقانون، من دون اعتراض أو إثارة أسئلة أو شبهات من المسؤولين في مصرف الرافدين أو المسؤولين في “أمانات الهيئة العامة للضرائب”، فلم يفعلوا شيئا وهم يرون أن أموال الهيئة يتم نهبها جهارا نهارا؟ أين كان القانون عندما تم تسييل كل تلك الصكوك بالدولار؟

لقد بدأ الكاظمي سلطته وهو يقول إنه يعتزم مكافحة الفساد. ولكن هيئة النزاهة قالت العام الماضي إن عدد المتورطين بأعمال الفساد بلغ 11 ألفا و605 مسؤولين، بينهم 54 وزيرا. لماذا لم تتم محاسبتهم؟ وأين هم الآن؟

فإذا قيل إنه كان عاجزا عن ملاحقة الفاسدين و”الحيتان” الكبار الذين يقفون وراءهم، فلماذا لم يتخل عن منصبه؟ لماذا لم يخرج للناس ليقول لهم إن دولة الميليشيات الطائفية هي دولة لصوص، وإنه لا سبيل للقضاء عليها لا بانتخابات، ولا بانتفاضات سلمية وربما ولا حتى بالسلاح؟

ولئن كانت هناك شكوك جديرة بالاعتبار حول قدرة رئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني على مكافحة الفساد، لأن دائرة “الإطار التنسيقي” هي نفسها دائرة شبهات، ورؤوس المافيا هم في قلبها ومن حولها، إلا أنه قال “لن نتوانى أبدا في اتخاذ إجراءات حقيقية لكبح جماح الفساد، الذي استشرى بكل وقاحة في مفاصل الدولة ومؤسساتها… ووضعنا ملف الفساد في أول أولويات برنامجنا الحكومي”… وأنه “لن يسمح باستباحة أموال العراقيين كما حصل مع أموال أمانات الهيئة العامة للضرائب في مصرف الرافدين”.

وبافتراض أنه “صادق أمين” ولا يمثل امتدادا لما سبق، فإن السؤال الذي يواجهه هو: متى يكون ذلك؟ الآن؟ أم بعد ضياع المال؟ وما هي “المكاشفة” التي سوف يعلنها خلفه بعد انقضاء عهدته؟ وكم سيكون المبلغ في تلك المرة؟

الأحزاب والميليشيات الشيعية أنشأت نظام عصابات للنهب والسرقة والتدليس منذ الأيام الأولى لتوليها السلطة، وأوجدت وسائل عدة لكي تقوم بالاستيلاء على موارد الدولة. والفضائح المعلنة كثيرة، ولو لم تكن الدولة نفسها هي دولة فساد، ما ظلت تلك الفضائح تتكرر بثبات.