الإثنين - 01 ديسمبر 2025 - الساعة 08:05 م
أن تكون أكاديميًا لا تعني أن تكون فقط جامعا للألقاب والشهادات، بل أن يكون عقلك موطنًا للسؤال وقلبك موطنًا للجواب. وأن يكون ضميرك روحًا يقِظَة لا تنام، وأن تُدرك أنك لستَ مجرّد ناقًلا للمعرفة أو صانعًا لها، بل حارسًا عليها، ومهندسًا للوعي؛ فأنت ضميرٌ علمي، وذاكرةٌ نقدية، وجسرٌ يصل الجامعةَ بالمجتمع، والفكرةَ بالتطبيق، والمشكلةَ بالحل.
فالأكاديمية، يا سادة، ليست مجرّد منزلة علمية أو لقبًا رنّان، بل هي قبل ذلك وبعده منظومة سلوكية وقيما أخلاقية. وكم من صاحبِ علمٍ في الجامعة يظنُّ نفسَه أكاديميًا مُخضرَمًا وأستاذًا متمرّسًا، وهو في الحقيقةِ أبعدُ ما يكون عن روح الأكاديمية؛ إمّا لتعاليه وتفاخره بنفسه، أو لِفُحْشِ لسانه وسوءِ خُلقِه، أو لازدرائه من تفوّق عليه في ميادين المعرفة أو في ميادين أخرى. وكم من عالِمٍ وباحثٍ وأستاذٍ يَخدِش حياءَ الأكاديمية بنفاقه وبلسانٍ معسولٍ يقطر سُمًّا وضغينة، يسخِّر علمَه ومكانته في خدمة مصالحه الشخصية لا في خدمة الحقيقة والمعرفة والإنسان.
فالأكاديمية، يا سادة، أخلاقٌ وقيم، ونزاهة علمية وشغفًا معرفيا؛ فالأكاديمي الحقّ هو مَن يلعب دور الوسيط بين العلم والمتعلّم، وهو مَن يجعل التواضعَ أساسَ تعامله؛ فالتواضعُ من صفات الأكاديمية أمّا التفاخرُ والعنجهية فهما من سمات البربرية.
الأكاديمي يا سادة هو الذي يبتعد عن إطلاق الأحكام التعميمية، ويحذر ألّا يقع في فخِّ التناقض، ولا يكون كمن وقع بين شِقّيِ الرحى. والأكاديمي الحقّ لا يُطلِق العنانَ لهواهُ وغروره، بل يَكبحُ جماحَ نفسِه، ويتجنّب الانحيازَ السلوكيَّ في تعامله مع طلابه أو الوقوعَ تحت تأثير الهالة.
الأكاديمي، يا سادة، منهجه الإبداعُ والتفرّدُ والابتكارلا طريقُ المُحاكاةِ العمياء والائتساء والرتابة دون تبصّر ورويّة، ولا يكون جامدًا ضيّقَ الأفق، وهو الذي يستخدم استراتيجياتٍ تعليميةً متنوّعة، ويُحسن توظيفَها بحسبِ مقتضيات الحاجة والواقع، وأن يكون على درايةٍ ووعيٍ بسيكولوجية التعلّم والاتجاهاتِ التربويةِ الحديثة، وألّا يتعاملُ بفوقيّةٍ وتعالٍ مع المتعلمين مهما بلغ علمه؛ فالأكاديمية أن تنهل علما وتهدم جهلا وتشكّل قيما.
الأكاديمي يا سادة يجب أن يكون ملتزما بالوقت وأن يكون جسورًا في اتخاذ القرارات صادقًا في الدفاع عن السليمة منها والتراجع عن الخاطئة وأن يكون حازما في تنفيذها وأن يقدّر الأمور لا يهدرها وأن يكون لطيفا دون إسفاف وأن يكون معياره الأول هو العدل والمساواة والمصلحة العامة بعيدا عن المصالح الذاتية الضيقة الزائلة ، وأن يكون صبورا لا ضعيفا ، متمسكا بالصواب لا يطرح أفكارا فجّة أو أحكاما ساذجة والأكاديمي الحقّ يوسّع من ثقافتِه، ويتنوّع في مناهلِ معرفتِه، ويفكّر خارج الصندوق، ويمتلك ضميرًا مهنيًا حيًّا، وينتقدُ نقدًا بنّاءً، ويسلك طريقَ الإشادةِ والتزكيةِ والتوعية بدلًا عن الذمِّ والقدحِ والهجاءِ.
فالأكاديمي يا سادة يجب أن يكون جسرًا يعبرُ به الآخرون، ثابتًا على الحقّ، لا تجرّه الأمواج حيث شاءت. لا يجوز له أن يتعامل مع أصدقائه وأقاربه بالمحسوبية والمحاباة أو أن يُحيِّدَهم عن معايير العدالة والإنصاف.
فالمعلّم الأكاديمي، يا سادة، قائدٌ تربويٌّ كنظيره العسكري؛ غير أنّ سلاحه العِلم وعتاده الموضوعية؛ عوضا عن البندقية والدبابة؛ فالأكاديمي الحق لا يُقاس بقدر ما يُعنعن به من نشر أوراقًا بحثية عاجزة عن الإنتاجية والتأثير بل يجب أن تُسهم أبحاثه في تقديم حلول لمشكلات قائمة علمية ومجتمعية وإحداث تغيير والخروج بأفكار نافعة.
فالسؤال الذي يطرح نفسه أخيرا: كم منا، يا سادة، يستحق حقًا لقب الأكاديمي؟
الأكاديمي الحقيقي ليس من يكتفي باللقب، بل من يعيش ويُجسد قيم الأكاديمية في كل تصرّف وفكر وقرار.
رانيا حسن زين