كتابات وآراء


الثلاثاء - 02 أبريل 2024 - الساعة 03:17 ص

كُتب بواسطة : د. هيثم الزبيدي - ارشيف الكاتب



عندما أرسل إليّ صديق شريطيْ فيديو ليومين متعاقبين من التظاهرات التي شهدها محيط السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأردنية عمان، كان ردي بسيطا: أبناء من تظاهروا عام 1991 و2003، يتظاهرون اليوم. كنت أقصد معاني مركبة من ردي.

فالأردن على موعد مع مثل هذه التظاهرات كلما حدثت تطورات سياسية إقليمية كبيرة. ولهذه التظاهرات أسباب ونتائج مختلفة تكشف طبيعة السياسة في الأردن وما يمكن أن تقود إليه.

حاولت أن أبين لصديقي أن هذه تظاهرات هبّة، سرعان ما تتبدد. نستطيع أن نستحضر بذاكرتنا الأمواج البشرية التي خرجت تهتف للعراق وصدام حسين عام 1991، إبان حرب تحرير الكويت. لا أحد يريد أن يجادل بأنها كانت مشاعر عفوية لشعب يحب العراق ويعرف أية خسارة ستمنى بها المنطقة إن تم تدميره.

دفع الأردن ثمنا سياسيا باهظا بسبب موقفه الشعبي وحرص العاهل الأردني الراحل الملك الحسين بن طلال على مجاراة الموقف الشعبي، والوقوف، على الأقل اسميّا، على الحياد.

تعلم السياسيون الأردنيون الدرس من موقف بلادهم من حرب تحرير الكويت، وسمحوا لقوات أميركية وبريطانية وأسترالية بالدخول من غرب العراق خلال حرب إسقاط النظام عام 2003. خرج الأردنيون يهتفون بحرارة نصرة للعراق، لكن الحرب انتهت، كما هو متوقع، بسقوط النظام وسكت المتظاهرون.

لا شك أن هذه التظاهرات، مثل التظاهرات التي تجري اليوم نصرة لغزة، تحمل دلالات خطيرة. الحدث الإقليمي في العراق وفلسطين يستطيع أن يشعل الشارع في الأردن، ربما أكثر من أي بلد عربي. تتداخل الأسباب التي تجعل التظاهرات تندفع إلى الشوارع، بين حس قومي للأردنيين، وتأثير كبير لفئة سياسية واجتماعية كبيرة من بين الأردنيين المنحدرين من أصول فلسطينية.

العربي الذي يتظاهر في عاصمة عربية، إنما يتضامن مع أخيه الفلسطيني في غزة. الأردني من أصول فلسطينية عندما يتظاهر في عمان، إنما يتضامن مع نفسه.

حماس -أي الإخوان- التقطت الإشارة، وسمعنا كلام القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف الذي دعا فيه الأردنيين إلى التوجه نحو الحدود للمشاركة في الحرب. هذا كلام لا يروق للقيادة الأردنية. ردت الحكومة الأردنية على لسان الناطق باسمها مهند مبيضين بشدة وبالتفصيل على هذه الدعوة الملغمة، والتي تهدد الاستقرار.

ثمة دور احتجاجي تمارسه “دول الطوق” ضد ما تقوم به إسرائيل من جرائم بحق الفلسطينيين في غزة. لكن هذه هي حدوده: الاحتجاج. ليس من المسموح أن يتم تجاوز حدود الاحتجاجات لتتحول إلى فعل عسكري، لأن الأردن، أكثر من غيره، يعرف خطورة هذا المنحى.

الذاكرة الأردنية والفلسطينية تحمل ذكريات مريرة. أرادت حركة فتح وعدد من المنظمات الفلسطينية المدعومة من عدد من الدول العربية المتحمسة، وخصوصا العراق وسوريا، أن تحيل عمان إلى “سايغون عربية” تنطلق منها حرب تحرير فلسطين، تشبها بحرب الفيتكونغ وجيش فيتنام الشمالية لتحرير فيتنام الجنوبية.

تحرك الملك الحسين عام 1970 لمنع اختطاف الأردن بمغامرة كان من الممكن أن تصبح شبيهة بمغامرة اختطاف حماس لغزة اليوم. الفلسطينيون إلى يومنا هذا يطلقون على الرد الأردني وضرب فتح وبقية المنظمات الفلسطينية اسم “أيلول الأسود”. الاسم يصف الموقف.

عندما وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية مع الإسرائيليين اتفاقية أوسلو عام 1993، وكانت مصر قد سبقتها عام 1979 إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد، لم يشأ الملك الحسين أن يكون ملكيا أكثر من “الملك” الفلسطيني. كان يدرك أن اليمين الإسرائيلي يرى في الأردن الوطن البديل للفلسطينيين. كانت اتفاقية وادي عربة للسلام بين الأردن وإسرائيل حماية للأردن من مغامرة إسرائيلية جديدة تدفع الفلسطينيين، كما حدث في حربي 1948 و1967، نحو الأردن. هذا التذكير الضروري والمهم والذكي جاء على لسان الناطق باسم الحكومة الأردنية مهند مبيضين قبل يومين عندما كان يرد على دعوات الضيف. ليس بوسع الأردن سياسيا أو ديمغرافيا أن يتحمل نزوحا فلسطينيا جديدا.

مشكلة الأردن تكمن في أنه مرتبك في الطريقة التي يتعامل بها مع الإسرائيليين، حتى من قبْل حرب غزة. ما إن أدرك العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني خطورة تآكل الدور الذي تلعبه بلاده كوسيط بين العرب والإسرائيليين، خصوصا مع توقيع عدد من الدول العربية على مراحل ما صار يعرف بالاتفاقيات الإبراهيمية، حتى صعّد من موقفه ضد حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. نتنياهو، هذا الثعلب السياسي المراوغ، كان يدرك أن لا فائدة ترجى من التعامل مع الأردنيين، وأنه على وشك تحقيق هدفه من خلال توقيع اتفاقيات سلام مع عدد متزايد من الدول العربية، وليس الخليجية وحسب. كان يزور سلطنة عمان ويوقع اتفاقية سلام مع الإمارات وأخرى مع البحرين، أعقبتهما اتفاقيتان مع المغرب والسودان. وبتزايد الإشارات القادمة من السعودية عن استعداد لتوقيع اتفاقية سلام والتطبيع مع إسرائيل، لم يعد هناك أي دور أردني.

أعاد الأردن فتح ملف العتبات المقدسة في القدس وصعّد ضد حكومة نتنياهو، الذي أمعن بدوره في تجاهل الأردنيين والفلسطينيين. كان التصعيد الأردني غريبا بعض الشيء لأنه يسير عكس التطبيع الذي بدأه حلفاء الأردن الأقرب في الخليج. لعل التصعيد في جزء منه كان تنفيسا سياسيا داخليا للوضع الاقتصادي الذي رافق عودة العمال الأردنيين من الخليج بسبب سياسات توطين الوظائف، وتراجع الدعم الخليجي للميزانية الأردنية، وتخفيض حصص النفط القادمة من العراق مجانا أو بنصف السعر العالمي، وأزمة كوفيد، وأخيرا تداعيات حرب أوكرانيا. التصعيد الأردني ضد إسرائيل، الذي ارتبط بشخص العاهل الأردني، كان لاستمالة الأردنيين، وخاصة منهم المنحدرين من أصول فلسطينية، ولقطع الطريق على مزايدات الإخوان، ولتذكير الخليجيين بالوضع الصعب الذي تواجهه القيادة الأردنية.

ثم جاء “طوفان الأقصى” ليلقي المزيد من الزيت على نار المنطقة. احتار الأردن في موقفه، فهو من جهة يريد تأكيد دوره في “عداوته” لحكومة نتنياهو، وزادت نبرة الكلام السياسي والدبلوماسي في انتقاد حرب إسرائيل على الفلسطينيين، وصرنا نستمع إلى كلام “شعبوي” يهدف إلى امتصاص الغضب، ولكنه كلام لا يريد المبالغة في التصعيد فتذهب الأمور داخليا إلى ما لا يمكن السيطرة عليه. حاول الأردن الإمساك بالعصا من وسطها، لكنه اكتشف أن نتنياهو لا يريد أن يمسك بطرفها، ولا تريد حماس من الأردن أن يساعدها في الإمساك بالعصا أصلا. وتحركت مصر بذكاء إذ شاركت الأردن التصريحات واللقاءات، لكنها احتكرت المشاركة بالتفاوض مع الإسرائيليين والأميركيين والفلسطينيين برعاية القطريين. غزة على حدود مصر، وليست على حدود الأردن. المعبر الذي يقود إلى غزة هو معبر رفح، وليس معبر كرم أبوسالم، عبر إسرائيل نحو الأردن. يمكن القول إن مصر حلت الجزء الأكبر من مشاكل السيولة لديها وأزمتها الاقتصادية الآنية، بعد أن انتبه العالم لخطورة الوضع في غزة. تحركت أوروبا وصندوق النقد وجاء الإنقاذ الأكبر من الإمارات. السيطرة على معبر رفح ثمنها 51 مليار دولار إلى حد الآن. شيء لم يتكرر مع الأردن.

لدى العاهل الأردني حساباته السياسية الداخلية والإقليمية ولهذا هو يحرص شخصيا على الظهور في كل ما يتعلق بأزمة غزة. الأردن أول من بادر بنجدة الفلسطينيين عبر إلقاء المساعدات من الجو، وشاهدنا الملك عبدالله الثاني شخصيا على متن إحدى الطائرات العسكرية التي تلقي المساعدات. لكن لا التصريحات المتشددة ضد نتنياهو قبل الحرب وبعد اندلاعها، ولا التحرك الدبلوماسي في المنطقة وخارجها، ولا المساعدات، قد ضمنت للأردن مقعدا على طاولة القرار في معطيات الحرب الجارية أو ما يمكن أن تؤدي إليه فلسطينيا وإقليميا. واليوم، يلوم الأردنيون، من خلال تظاهراتهم ضد السفارة الإسرائيلية، بلادهم على عدم قطع العلاقات كإجراء بالحد الأدنى للرد على جرائم حرب غزة.

لا يمكن للأردن أن يفعل الكثير. ومثلما أبدى الملك الحسين رباطة جأش استثنائية عام 1991 للحد من فورة التعاطف مع العراق وضبط الأمور إلى حين مرور العاصفة، يُنتظر أن يقوم العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني بما يكفي من الإجراءات التي تضمن امتصاص الغضب. ولعل من الضروري أن ينظر إلى الأردن بالعين نفسها التي نظرت إلى مصر.

الأبناء والأحفاد غاضبون ويتظاهرون. هذا غضب حقيقي وليس مفتعلا. لكن الحكمة تكمن في ألّا يترك لحماس أو إيران أو الإخوان فرصة المتاجرة به ليدفع الأردن الثمن.