كتابات وآراء


الإثنين - 25 مارس 2024 - الساعة 01:37 ص

كُتب بواسطة : د. هيثم الزبيدي - ارشيف الكاتب



لنتخيل أن موسمنا الرمضاني الحالي يمر من دون الإنتاج الدرامي المصري. هناك الكثير من الأعمال السورية والسورية/اللبنانية والخليجية والمغاربية. ستلجأ الفضائيات والمنصات التدفقية إلى محاولة تعويض اختفاء الدراما المصرية من المشهد. لكن مهما حاولت، فإن النقص سيكون أكثر من محسوس.

صناعة الدراما المصرية، التي ورثت صناعة السينما والنشاط المسرحي، جزء أساسي من المشهد الترفيهي عربيا أيا كان رأيك فيها، سلبيّا أو محايدا أو إيجابيّا. هذا دور لا يمكن الاستغناء عنه بسهولة ومن الصعب تعويضه.

سبق وأن مرت فترة غاب فيها الإنتاج الدرامي المصري عن الشاشات العربية، عقب قرار المقاطعة العربية لمصر بعد توقيعها اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، حيث كانت الدراما المصرية من ضحايا المقاطعة.

ورغم أن البث التلفزيوني في ذلك الوقت كان أرضيا ومحدودا بعدد قليل من القنوات وساعات بث أقل، ولا شيء اسمه فضائيات، إلا أن كل مديري البرمجة للقنوات التلفزيونية العربية أدركوا أنهم أمام معضلة حقيقية.

وجد البعض حلا مؤقتا؛ إذ افتتحت شركات الإنتاج أستوديوهات في عجمان. انتقل الممثلون المصريون بأعداد محدودة إلى دولة الإمارات، وقدموا دراما بسيطة بحكايات محدودة لأنها تضع في الاعتبار أن كل شيء سيتم على خلفية ديكور بسيط. كان الجميع يعلم أن غياب الدراما المصرية مؤقت، وأن الاستثمار بالتوسع في الأستوديوهات في عجمان سيكون مضيعة للمال.

بعد اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات في 6 أكتوبر 1981، قلب أغلب العرب صفحة مع مصر وعمل الرئيس المصري، الذي خلف السادات، حسني مبارك على إصلاح العلاقات مع الدول العربية من دون التفريط في العلاقة مع إسرائيل.

مكانة مصر في الإنتاج السينمائي والدرامي كانت كبيرة وفي جزء منها مرتبطة بريادتها لهذه الصناعة المهمة. لا نعرف بالضبط كم كانت هذه الصناعة تدر على مصر على مدى أكثر من قرن من تأسيسها ونجاحها، لكنها كانت كافية لأنْ تصنف كصناعة مهمة وكبيرة ومؤثرة، في حين بقيت مثيلاتها في الدول العربية في إطار التجريب محدود الأثر والأهمية؛ فيلم من هنا ومسلسل من هناك، ما كانا ليعوضا ما تقدمه صناعة السينما والدراما المصرية. المكانة، إن جاز التعبير، تحولت إلى دور لأنها برهنت على أن من الصعب تعويضها ببديل، حتى لو كان البديل جزءا من الصناعة الأصلية ارتحل مؤقتا إلى الخليج.

لو نظرت مصر اليوم إلى هذه التجربة، بتاريخها وما تقدمه اليوم من مكانة ودور، لصار من السهل عليها أن تفسر لنفسها قبل الآخرين ماذا يعني دور مصر في المنطقة. في السنوات القليلة الماضية، زاد الحديث عن تراجع، أو تزايد، الدور المصري الإقليمي والدولي. هي قراءات متذبذبة المستوى لوضع مصر في الإقليم. المصريون أصروا على أن دورهم هو نفسه، وأن مكانة البلد لم تهتز. كان من الصعب على السياسي المصري أن يتقبل أن دولة صغيرة مثل قطر يمكن لها أن تهيّج المنطقة من خلال استخدامها القوة الناعمة، وخصوصا الإعلام، ومن خلال شراء امتياز الملكية السياسية لحركة الإخوان والاستحواذ عليها كأداة للتغيير في المنطقة، وليس في مصر فقط. يقال إن الرئيس المصري الراحل حسني مبارك وصف قناة الجزيرة بعلبة الكبريت، استصغارا لحجمها واستغرابا من دورها.

نعرف طبعا أن علبة الكبريت الصغيرة هذه أحرقته لاحقا. ورحل نظام مبارك، وظل من بقي من أركانه على قيد الحياة يتساءل عن قدرة المال والإعلام على الإطاحة أولا بمكانة مصر، ثم قدرتهما على تعويض دورها. مشهد الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني وزير خارجية قطر آنذاك وهو يقف متصدرا اجتماع الجامعة العربية لفرض العزلة على سوريا، لا شك كان تذكيرا بكم ضيعت مصر من مكانتها ودورها، وبعدم قدرتها على الحفاظ حتى على شكلية هذا الدور.

اليوم تأتي حرب غزة، بتشعباتها الكثيرة التي تمتد من حدود معبر رفح إلى جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، لتضع مصر أمام امتحان استعادة الدور. الحديث فقط عن هذا الدور، كما أكدت الأحداث، لا يقدم الكثير. ومن المخاطرة بمكان أن تفهم مصر الدعم المالي الذي تلقته من الإمارات وأوروبا وصندوق النقد على أنه اعتراف بدورها، وليس آليات إنقاذ لمنع انهيار البلد اقتصاديا في مرحلة صعبة تعيشها المنطقة. الموقف الموضوعي المنتظر الآن هو أن تضع القاهرة استعراضيات الدور المفترض جانبا، وأن تعيد ترميم مكانتها ودورها بما يتوفر لها الآن من مال قد لن يتكرر تقديمه لها في المستقبل.

أهل مصر أدرى بشعابها. لهذا من الضروري أن تتم إعادة تعريف الدور المفترض لهذا البلد الإستراتيجي. من المفيد أن تسأل مصر نفسها أسئلة محورية، وخصوصا ما تعلق منها بالجانبين الاقتصادي والديمغرافي، قبل أن تسأل عن أهمية دبلوماسيتها وقوة جيشها.

الاقتصاد والديمغرافيا مرتبطان بالتنمية. وكي يكون لمصر دور اقتصادي وبشري في الإقليم والعالم، كما تفترض لنفسها، عليها أن تقدم خارطة طريق متعددة الأغراض والأوجه لمشاريع التنمية في البلاد. لسبب ما، كان تعريف التنمية في مصر مرتبطا بالإعمار. لا شك أن بناء المدن السكنية والطرقات والبنى التحتية الأساسية من محركات التنمية. لكنها تنمية باتجاه واحد وبأفق محدود. إلى متى يمكن أن تستمر في بناء العمائر والمجمعات السكنية والأبراج التجارية وتنتظر أن تكون مصدرا للدخل التنموي؟ لا شك أن تجارب الآخرين، كما هي تجارب مصر، تقول إن ثمة سقفا لما يمكن أن يشيده أي بلد من أبنية سكنية وتجارية، كما تشهد تجارب دول مثل الصين وتركيا. فلو اكتفى هذان البلدان بتنمية قائمة على الإعمار فقط لكانا في وضع اقتصادي أصعب كثيرا من الوضع الذي قادتهما إليه المبالغة في الاستثمار العقاري، وتمويل هذا الاستثمار بالاقتراض أو المنح. مصر نفسها تدرك خطورة الأمر وهي تنظر إلى الأبنية التي تنتظر ساكنين قد لا يأتون أبدا في الأحياء السكنية في العاصمة الإدارية الجديدة.

لا نعرف مثلا ما هي الخطة الزراعية التنموية لمصر. هذا بلد يستورد أغلب ما يأكله. النمو السكاني في مصر على مدى نصف قرن كان يتم ببركة أسعار الحبوب والبقول العالمية المتدنية. مع أول هزة لواردات القمح الروسي أو الأوكراني، بسبب اشتعال حرب أوكرانيا، دخلت مصر في حالة طوارئ غذائية؛ صار الحديث عن “العيش” شغل المصريين، شعبا وقيادة. هذه ليست دعوة إلى تحويل الصحراء إلى حقول لزراعة القمح، فالمناخ الحار رسم خارطة مصر منذ فجر التاريخ وجعلها تتحرك بحضاراتها وسكانها على مسار النيل. لكن التطور التكنولوجي في تحلية المياه باستخدام الطاقات البديلة والنظيفة، لا بد أن يؤخذ بالاعتبار في أي مسار للتنمية. التذمر الدبلوماسي من مشروع سد النهضة في إثيوبيا ليس أمنا غذائيا. من دون أمن غذائي مصري، من الصعب الحديث عن دور إقليمي. لا يمكن لأحد أن يفعل أي شيء بمعدة خاوية.

ماذا عن اليد العاملة؟ مصر تصدّر اليد العاملة الماهرة والبسيطة. لكن العالم يتغير بين توطين للوظائف في الخليج وتراجع اقتصادي في الغرب. ماذا يفعل العائدون؟ هل هناك خطة لإقامة صناعات في مصر، بعد أن تآكلت بنيتها الصناعية وتوقف بعضها تماما، وصارت تستورد حتى فانوس رمضان من الصين؟ متى شاهد أي منّا عبارة “صنع في مصر” على منتج اشتراه في دولة عربية أو غربية؟ كيف يكون ثمة دور لبلد يمكن أن تتوقف فيه عجلة صناعة معينة أو خدمات، بسبب نقص بسيط في قطع الغيار؟

الدور الإقليمي الذي تريده مصر لنفسها لا يمر بقدرتها على منع إسرائيل من تهجير الفلسطينيين من غزة أو أن تصبح معبرا لشاحنات المساعدات العابرة إلى القطاع. ولا يُصنع الدور بتبديد الدولة للمال القادم من الخارج في مشاريع من الصعب وضعها في إطار التنمية، كما لا يكون في الاستعراضات المذهلة للقوات المسلحة والطائرات الحديثة.

تقول بعض أرقام الإنتاج الدرامي المصري لموسم رمضان الجاري إن ميزانية الأعمال كانت في حدود 35 – 40 مليون دولار لإنتاج نحو 30 عملا دراميا، تملأ الآن شاشات الفضائيات والمنصات التدفقية. يبدو الأمر نموذجا بسيطا ومحدودا للنظر إلى صناعة، وإن مصر تحتاج إلى أن تولد المليارات سنويا كي تستطيع العيش في عالم من التحديات. لكنه نموذج ناجح وحقيقي ويمكن البناء عليه والاقتداء بعناصره.

صحيح أن الدراما قوامها التمثيل، لكنها صناعة لا تمثل دورا على نفسها وتقول الحقيقة لذاتها: هذا ما بوسعي فعله وهذا ما أنتجه. هذا بالتأكيد أفضل من أن يقوم غيرها بتمثيل وجود دور سبق وأن أحرقته علبة كبريت.