الجمعة - 09 سبتمبر 2022 - الساعة 02:48 ص
في مقالنا الأخير تناولنا مقاربة بين الصين وتايوان والألمانيتين من ناحية توقيت نشوئهما، ومن ناحية رغبة كل منهما أن يعترف بهما العالم الممثل الشرعي الوحيد للشعب والدولة.
ذلك كان موقف الصين الشعبية إزاء الصين الوطنية (تايوان)، وهذا كان موقف ألمانيا الغربية نحو ألمانيا الشرقية. ومن أجل ذلك صاغت الصين الشعبية شعار «بلد واحد ونظامان». وقامت ألمانيا الغربية بإطلاق «مبدأ هالشتاين» الذي بموجبه أن أي دولة تقيم علاقات دبلوماسية مع ألمانيا الشرقية يؤدي إلى قطع علاقاتها مع ألمانيا الغربية التي كانت تعد نفسها الممثلة الشرعية للشعب الألماني برمته.
بعكس أغلب الدول الغربية الكبرى ومن الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، كانت الولايات المتحدة آخر تلك الدول المعترفة بالصين الشعبية واستمر، كما سنرى بعد قليل، الاعتراف بتايوان وأحقيتها بتمثيل الصين في الأمم المتحدة، وحين رأت أن مصلحتها نكاية بالاتحاد السوفياتي الاعتراف بالصين الشعبية وعدم الاعتراض على قبول عضويتها في مجلس الأمن كبديل لتايوان، السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا تسعى الولايات المتحدة مع ذلك إلى احتواء الصين عبر استخدام ورقة تايوان؟ وهل المسألة ستقتصر على الاحتواء فحسب أم اتباع سياسة الاستنزاف التي تمارسها الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية إزاء روسيا بسبب أزمة أوكرانيا؟ لماذا تصرح الولايات المتحدة بأنها في حالة محاولة الصين ضم تايوان بالقوة فإنها ستقوم بالدفاع عنها؟ هل هذه الوعود يمكن أخذها على محمل الجد أم ستكتفي الولايات المتحدة بتزويد تايوان بالأسلحة لتدافع عن نفسها مثلما تقوم به في الأزمة الأوكرانية؟
التزمت الصين الشعبية موقفها الصلب الذي عبّرت عنه عدة مرات، خصوصاً عند نقاش الجمعية العامة للأمم المتحدة حينما صوّتت بالاعتراف بحكومة الصين الشعبية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 1971 بأحقية تمثيلها في الأمم المتحدة بديلةً لحكومة تايوان بقيادة الرئيس شيانغ كاي تشيك، والموقف الأميركي الذي سعى جاهداً للحيلولة في البدء دون تحقيق ذلك، حيث اقترحت الولايات المتحدة في 17 أغسطس (آب) 1971 أن تكون الصين الشعبية ممثلة، وفي الوقت نفسه يجب وضع بند لضمان عدم حرمان جمهورية الصين من تمثيلها. وجرت عدة مداولات وطرح عدد من المقترحات في جلسات الجمعية العامة طيلة شهر أكتوبر عام 1971.
وفي إحداها أصدرت وزارة خارجية الصين الشعبية بياناً رداً على اقتراح أميركي لصالح تايوان بالقول إن ذلك الاقتراح كان كشفاً صارخاً لمخطط حكومة الرئيس ريتشارد نيكسون لإنشاء «دولتين صينيتين» في الأمم المتحدة. وأضافت أن هناك «صيناً واحدة فقط»...
وأن تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية ومقاطعة صينية كانت قد أُعيدت بالفعل إلى الوطن الأم بعد الحرب العالمية الثانية... وأن الولايات المتحدة كانت تخطط لفصل تايوان عن الصين... وأن الشعب والحكومة الصينيين يعارضان بشدة «صينين». وكما هو معلوم قُبلت الصين الشعبية في الأمم المتحدة، لأنه كان من غير المعقول لأكثر من عقدين أن تهمش دولة تمثل نحو ربع سكان العالم خارج إطار منظمة دولية تسمى «الأمم» المتحدة وهي تهمش الصين الشعبية بثقلها السكاني واتساع مساحتها ويتم تمثيل الصين الوطنية (تايوان) بإحصائية الآن بسكان تعدادهم نحو 23 مليون نسمة.
لم يتغير موقف الصين منذ البداية حتى الآن بالمطالبة بعودة تايوان إلى البر الصيني.
ولا يفوت صدور أي كتاب أبيض من السلطات الصينية من دون الإشارة إلى مطالبها الوطنية وانتقادها ما تسميه الاستفزازات الأميركية. فقد صدر في أغسطس الماضي في النسخة العربية من نشرة «الصين اليوم» كتاب أبيض بعنوان «مسألة تايوان وإعادة توحيد الصين في العصر الجديد»، أكد متحدث باسم مكتب عمل تايوان التابع للحزب مواصلة العمل على إعادة التوحيد الوطني السلمي على جانبي المضيق... وفضح تواطؤ القوى الانفصالية لـ«استقلال تايوان» مع القوى الخارجية في افتعال الاستفزازات.
وقد أتاحت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لتايوان نشر مقال رأي (وتم إغفال اسم كاتبه) في نشرة صينية في أواخر أغسطس الماضي بعنوان «ما يسمى (الفصل بين السلطات) ليس مبرراً لزيارة بيلوسي منطقة تايوان الصينية». عدّ كاتب المقال زيارة بيلوسي ليست خروجاً صارخاً عن المبادئ الأساسية للقانون الدولي.. وتمثل انتهاكاً لمبدأ «صين واحدة»، وهو إجماع دولي وعرف أساسي للعلاقات الدولية يحظى باعتراف من المجتمع الدولي. وانتقد المقال زيارات أعضاء الكونغرس التي يمكن أن تؤثر بشكل أساسي على العلاقات الصينية - الأميركية.
ورغم هذا التوتر عبرت سفينتان حربيتان أميركيتان مضيق تايوان في أول خطوة من نوعها منذ أن أجرت الصين مناورات عسكرية غير مسبوقة في محيط الجزيرة، وقال مسؤول في البيت الأبيض إن مرور السفينتين الحربيتين «يتسق للغاية» مع سياسة «الصين الواحدة» التي تؤيدها واشنطن، ويهدف إلى تأكيد حرية المرور بين المحيطين الهندي والهادي. وفي الخميس الأول من سبتمبر (أيلول) أسقط جنود تايوانيون «طائرة مسيّرة مدنية مجهولة الهوية» قبالة سواحل البر الرئيسي الصيني بعد أن خرقت منطقة محظورة، وفق ما أفاد الجيش التايواني. وفي سياق متصل، سُجل في تايوان عدد قياسي من التوغلات الجوية الصينية في أغسطس الماضي. وأعلنت الولايات المتحدة في الثاني من سبتمبر عن صفقة أسلحة جديدة لتايوان بقيمة 1.1 مليار دولار، وهو الأمر الذي دعا بكين للمطالبة بإلغائها.
وتجدر الإشارة في نفس الوقت إلى استعداد شي جينبينغ لاختياره لولاية ثالثة رئيساً للصين وهو الذي يريد أن يتم في عهده تحقيق حلم الصين باستعادة تايوان بالسلم أو بقوة السلاح. وفي حال تبنيه خيار القوة لن ينفع استخدام تايوان لاحتواء الصين وسيجعل ذلك الولايات المتحدة في اختبار صعب للوفاء بتعهدها بالدفاع عن تايوان، لأن انتصار الصين في تايوان سيعني أيضاً بالنسبة لها هيمنة الصين كقوة جديدة في منطقة آسيا والمحيط الهادي وتهديداً لحلفائها في المنطقة!
مقالة الدكتور محمد علي السقاف
صحيفة الشرق الاوسط
بتاريخ ٨ سبتمبر ٢٠٢٢