كتابات وآراء


الإثنين - 11 ديسمبر 2023 - الساعة 01:10 ص

كُتب بواسطة : د. هيثم الزبيدي - ارشيف الكاتب



كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحتاج أن يسمع شخصيا من قادة الإمارات والسعودية أن جبهة أوبك+ ستبقى متماسكة. ثمة ما يكفي من الإشارات المقلقة التي تجعل بوتين يتحسب لما هو قادم. فأسعار النفط في تراجع رغم التخفيضات في الإنتاج. لكن ما يجعله متحسبا سياسيا هو تراكم لعدم رضا الإمارات عن حجم حصتها الإنتاجية في معادلة أوبك/أوبك+. ولو وضع أيّ مراقب سياسي هذه الإشارات مع ملاحظة البرود المحسوس في العلاقات بين أبوظبي والرياض، فإن مصير أوبك+ يصبح على المحك.

أيّ قراءة تاريخية لدور الإمارات في المنطقة تمنحها دور الضامن للاتفاقات. القيادة الإماراتية تتريث كثيرا قبل أن تقدم على خطوة سياسية كبرى. لكنها ما إن تقدم عليها، فإن الأطراف المعنية تدرك مدى سعيها للالتزام وتقديم الإمكانيات لضمان التزام الآخرين. الروس صاروا يتعاملون على هذا الأساس، ولهذا نجدهم حريصين على أن تكون الإمارات طرفا في أيّ ترتيبات سياسية أو تجارية في المنطقة، وأكثر حرصا على هذه الشراكة عندما يتعلق الأمر بالنفط.

عندما وزعت وكالة الأنباء العالمية خبر اعتزام بوتين زيارة الإمارات والسعودية، قدمته كخطوة مفاجئة من الرئيس الروسي الذي يتجنب السفر منذ اندلاع حرب أوكرانيا لأسباب بررها هو نفسه بالقول إنه “لا يريد إحراج الأصدقاء”. لكن بوتين يستطيع أن يقرأ الإشارات التي يمكن أن تسبب له القلق.

يوم 28 نوفمبر، وزعت الإدارات المتخصصة في مؤتمر كوب 28 قائمة بالمتحدثين الرئيسيين. وفي القائمة، كان المتحدث الأول بعد كلمة الافتتاح التي يلقيها رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، هو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

لا شك أن البروتوكول التقليدي يجعل كلمة ولي العهد السعودي تأتي لاحقا، بعد أن يلقي ملوك ورؤساء آخرون كلماتهم. لكن في كوب 28 كان هناك “بروتوكول نفطي” إن جاز التعبير. السعودية “قوة عظمى” نفطية. هذا يجعلها تتقدم على الكثيرين عندما يتعلق الأمر بمصير الطاقة في العالم، وكيف سيواجه المنتجون والمستهلكون قضية المناخ ومصير الوقود الأحفوري.

لكن حفل الافتتاح بدأ يوم 1 ديسمبر ولم يحضره ولي العهد السعودي. لا شك أن البعض قد انتبه لهذا الغياب. إلا أن دبي كانت تستضيف عددا كبيرا من الزعماء والقادة، فانشغل المحللون بكلمات الآخرين ومرت القضية من دون تعليقات تذكر. ما كان لهذا الأمر أن يفوت بوتين.

لا شك أن فريق الرئيس الروسي الذي يتابع منطقة الخليج أشار إلى أن قائمة الزعماء الذين سيحضرون ويتحدثون في كوب 28 تشمل الأمير محمد بن سلمان. ولا شك أن الفريق التقط تعليقات صحفية تم تداولها في أكتوبر الماضي عندما شارك رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد في قمة آسيان – مجلس التعاون الخليجي في الرياض. لم تتردد وكالات الأنباء العالمية في القول إن المشاركة هي تأكيد على أن البرود السياسي بين البلدين قد تم تجاوزه، وإن مشاركة الشيخ محمد بن زايد الشخصية في القمة هي الدليل.

لربما كانت المشاركة استباقا لبقا من الشيخ محمد بن زايد بأن لا شيء يعكّر صفو العلاقة الاستثنائية القائمة بين الإمارات والسعودية. وحضوره قمة آسيان – مجلس التعاون هو دعوة لحضور السعودية كوب 28 على أعلى مستوى.

ومثل كل الدول في العالم، فإن العلاقات الثنائية فيها دائما المد والجزر. ولعل أوليات العلاقة بين البلدين تفوق أيّ برود محتمل سواء أكانت أسبابه تتعلق بالوضع في اليمن أو طريقة إدارة الرياض لبعض الملفات السياسية والاقتصادية الإقليمية. بدا وكأن الأمر قد حسم وتم طيّه

لكن كوب 28 جاء وها هو ينتهي دون حضور سعودي ملحوظ. ولأن بوتين سيكون الأكثر تأثرا من أيّ اهتزاز لـ”جبهة” أوبك+، كان من الضروري أن يأتي بنفسه ويسمع من القيادتين. كانت التصريحات التي أعقبت اللقاءات تشير إلى تمسك الكبار في أوبك+ بقرارات تخفيض الإنتاج حفاظا على الأسعار. هذا مطمئن آنيا. لكن السوق النفطية تدرك أن الكثير من الحديث عن تخفيضات الإنتاج الكبرى هو كلام أكثر منه فعلا، وأن مئات الآلاف من براميل النفط تتسرب يوميا إلى السوق العالمية دون أن تدوّن في دفاتر أوبك وأوبك+.

هذه التسريبات في الإنتاج لن تكون على حساب المنتجين الصغار ممن ينتجون أقل من مليون برميل يوميا، فهم ينتجون بطاقتهم القصوى أصلا، بل تأتي على حساب حصص المنتجين الكبار الذين استثمروا كثيرا في زيادة الإنتاج لمواكبة سوق نفطية عالمية نهمة، لكن الإنتاج المتزايد لم ينعكس على حصتهم من السوق. ينظر الإماراتيون، ومعهم إلى حد كبير العراقيون، إلى التسريب في حصص أوبك وأوبك+ كنوع من المعاملة غير المنصفة لمنتجين لا يضمنون كمية النفط في الأسواق من دون تجاوزات فحسب، بل يدعمون الجانب السياسي من قرارات أوبك+ وتماسكها أمام الضغوط الغربية.

استقبل بوتين بحفاوة في أبوظبي وجاءت التصريحات المشتركة مع القيادة في الإمارات هادئة وإيجابية تتعلق بالعلاقات الثنائية من دون الإشارة إلى موضوع أوبك+، على عكس البيان السعودي – الروسي الذي أشار إلى قضية التزام الأطراف بقرارات خفض الإنتاج. ماذا سمع بوتين في أبوظبي والرياض؟ لا نعرف على وجه التأكيد، لكن لم يصدر ما يشير إلى أن الأسابيع القادمة ستغير من مسايرة الإمارات قرار خفض الإنتاج. جبهة أوبك+ متماسكة في المدى المنظور.

سيعود فريق بوتين الاستخباري إلى تنبيهه لما حدث قبل يومين في دبي. مرة أخرى تغيبت السعودية عن تقديم كلمة في كوب 28، في مرحلة حرجة من المفاوضات حول مصير الوقود الأحفوري. ربما تحدثت الرياض بلسان أوبك التي ترفض ربط مفاوضات المناخ مع إنتاج النفط.

لكن السعودية كانت حريصة خلال السنوات الماضية، ومنذ تولي الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزارة الطاقة، على أن تكون صاحبة الصوت العالي في قضايا من هذا النوع لتؤكد موقفها وسياساتها وتقطع الطريق على أيّ تأويل. هذه المرة، كان مقعد الوزير السعودي خاليا. من حق بوتين أن يقلق. البرود لا يزال يثير التحسب.