ظل الفيلسوف الروسي الخطير، ألكسندر دوغين، الذي كان صديقًا لإدوارد ليمونوف، يؤثّر في الظل على تفكير صانعي القرار في الدائرة الأولى بالكرملين على مدى ثلاثة عقود.
أطلق عليه البعض لقب ”مُنظّر بوتين“، وأطلق عليه آخرون لقب ”راسبوتين بوتين“، في إشارة إلى مستشار نيكولا الثاني.
يمكن اعتبار المفكر اللامع ألكسندر دوغين Alexandre Douguine كواحد من أخطر الفلاسفة في العالم، لكن منذ ثلاثين عامًا كان هذا المؤلف والمحاضر غزير الإنتاج منظّر الفكر المعادي لليبرالية والغرب والمناهض للحداثة، وشكل إلى حد كبير المصفوفة الأيديولوجية وWeltanschauung ”النظرة العالمية“ للعسكريين الروس، والنخبة السياسية في موسكو، وأثّر بشكل غير مباشر على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه.
مع ذلك، فإذا لم يتوخَّ العالم الحذرَ، فإنّ عالم الغد قد يشبه ذلك العالم الذي ظل يصفه الفيلسوف ألكسندر دوغين منذ ثلاثة عقود.. في جعبته قطيعة نهائية مع الغرب، ”مقبرة النفايات السامة“ ذي ”الأخلاق الفاسدة“ الذي يجسّد حركة مجتمع الميم LGBTQ (مجتمع الميم اصطلاح يشير إلى مثليي الجنس ومزدوجي التوجه الجنسي وللمتحولين جنسيًا)، على حد قوله.
”الغرب الحديث حيث انتصر آل روتشيلد، وسوروس، وبيل غيتس، وزوكربيرغ، هو الظاهرة الأكثر إثارة للاشمئزاز في تاريخ العالم.. كلما انفصلت روسيا عنه بأسرع ما يمكنها وبشكل كامل، كلما سارعت بالعودة إلى جذورها“، هكذا كتب هذا الفيلسوف الذي طوّر أيديولوجية تسمَّى ”الأوراسية“ والتي تدعو إلى ولادة روسيا من جديد.
من أين جاء دوغين؟
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، بدأ الروس في البحث عن مصفوفة أيديولوجية جديدة لتحل محل الشيوعية.
وفي عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، تم تشكيل لجنة تأمّل للتفكير في الأمر، لكنها لم تصل إلى شيء، وفي زمن الليبرالية المنتصرة كان الشاب ألكسندر دوغين، من ناحيته، على يقين تام بأنه لم يكن يشهد ”نهاية التاريخ“، على نحو ما أكده فرانسيس فوكوياما، بل إنه على العكس من ذلك يشهد ”صراع الحضارات“ الذي أعلنه صموئيل هنتنغتون.. لكن يبقى تحديد ماهية الحضارة الروسية.
في تلك الأثناء أعاد دوغين اكتشاف الأوراسية eurasism، وهي تيار فكري هامشي كان رائجًا بين المهاجرين الروس في عشرينيات القرن الماضي، ووفقًا للأوروبيين، فإنّ روسيا تُعرِّف نفسها أوّلاً باتساعها الذي يُجبرها على التفكير بعقليةٍ إمبراطورية لإخضاع خصومها من سكان الحدود.
ففي منظورهم يجب أن يكون الروس معادين للغرب، وفي نظرهم أنّ بطرس الأكبر خائن لأنه أضفى الطابع الأوروبي على البلاد وجعلها أوروبية من خلال تأسيس سانت بطرسبرغ.. في خيالهم ينظر الأوراسيون – الذين يعارضون المستغرِبين الروس – إلى أنفسهم على أنهم ورثة المغولي جنكيز خان الذي أسس دولة مركزية وعمودية، فهم لا يترددون في القول إن العصور الوسطى كانت أكثر نبلًا من عصر النهضة.
على مدى سنوات التسعينيات لم تحظ هذه الفلسفة إلا بالقليل من الصدى، وأصبح ألكسندر دوغين رفيق الدرب للمشاغب والمحرض إدوارد ليمونوف في تأسيس الحزب الوطني البلشفي، ثم تباعدت مساراتهم.
نشر ليمونوف الروايات، وبعد حين عارض بوتين، بينما أسّس دوغين مدرسة للجغرافيا السياسية وتميّز بعمله الأكثر شهرة: أساسيات الجغرافيا السياسية (1997).
في موسكو تتغلغل الأفكار ”الدوغينيانية“، لا سيما بين أفراد السيلوفيكي كما يُطلق على ”الرجال الأقوياء“ الذين يقودون الجيش والمخابرات والشرطة.
وبعد أن كان مستشارًا للنائب المحافظ جدًا جينادي زيلينيف في عام 1999، صار دوغين مستشارًا أيضًا لِسيرجي ناريشكين الذي أصبح رئيسًا للإدارة الرئاسية لبوتين في عام 2008، ثم رئيسًا للاستخبارات الأجنبية (منذ عام 2016)، وهذا الأخير، مثل كل النخبة في الكرملين يواصل الارتواء من المصدر الأوراسي الذي يدعو إلى وحدة الأرثوذكس والسلاف.
منذ وصول بوتين إلى سدة الحكم اكتسبت أيديولوجية دوغين شعبية كبيرة، ولعب الرجل دورًا مهمًا إلى أنّ تم ضمُّ شبه جزيرة القرم في عام 2014، وهو ما كان يدعو إليه منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنه ما لبث أن فقد مصداقيته جزئيًا لأنه لم يتنبأ بقدرة الأوكرانيين على المقاومة.
واليوم لم يعد دوغين ”مستشارًا للأمير“، مثل الرئيس السابق لجهاز الأمن الفيدرالي نيكولاي باتروشيف، أو تيخون، بطريرك موسكو و“المرشد الديني“ لسيد الكرملين، أو حتى رجل الأعمال كونستانتين مالوفيف، الملقب أحيانًا بـ ”الأوليغارشي الأرثوذكسي“.
تقول ماري دومولين، الباحثة في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية: ”دوغين معروف جدًا وشائع في وسائل الإعلام، لكنه ليس قريبًا من بوتين. إنه جزء من سديم أيديولوجي“.
أفكار ”متعدّد اللغات“ تغري حتى البرازيلي جاير بولسونارو
في عام 2014 وجدت الأوراسية ترجمتها السياسية مع إنشاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (روسيا، بيلاروسيا، كازاخستان)، الذي يهدف إلى أن يكون أحد أقطاب العالم متعدد الأقطاب، حيث يجب أن تكون ولادة الإمبراطورية الأرثوذكسية الروسية مثالاً يحتذَى به من قبل الإمبراطوريات الأخرى: الصينية والتركية والفارسية والعربية والهندية وأمريكا اللاتينية والأفريقية.
ولسوء حظ بوتين، فإنّ هذه السوق المشتركة التي أطلقها بضجة كبيرة انتكست وتراجعت بسبب الأحداث في أوكرانيا، حيث طردت انتفاضة الشارع الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش من السلطة.
مهما كان الأمر، فإنّ ثرثرة دوغين المتعدد اللغات – إنه يتحدث تسع لغات بما في ذلك الفرنسية والإنجليزية بشكل مثالي – تجاوزت الحدود، ووصلت إلى العديد من الآفاق.. لقد وصل دوغين إلى حد إغراء الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، فهو أيضًا كان معاديًا لإدارة بايدن، فقد ذهب إلى موسكو قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب في أوكرانيا.
أمّا بالنسبة لليمين الفرنسي المتطرف فهو مفتون بالفيلسوف منذ فترة طويلة. كاتب مقالات ”اليمين الجديد“ ألان دي بنواست Alain de Benoist صديق قديم، وأعد آلانْ سورال مقدمة أحد كتبه. أمّا بالنسبة لإريك زمور، فيبدو أنه يرتل أفكار الفيلسوف المُنظّر عندما يتحدث عن عدم وجود دولة أوكرانية.