أخبار وتقارير

الأربعاء - 24 ديسمبر 2025 - الساعة 01:04 م بتوقيت اليمن ،،،

صالح ابوعوذل


يقفز جنوب اليمن أو (الجنوب العربي) نهائيا خارج إطار الأزمة اليمنية المتعثرة، ولم تعد إعادته إليها ممكنة أو مجديةـ، هذا الخروج لا يخلق فراغا جديدا بقدر ما يكشف فراغا قديما في المقاربات الإقليمية، ويضع المملكة العربية السعودية أمام واقع أقل كلفة من الاستمرار في إدارة أزمة بلا أفق، وأكثر قابلية للتحوّل إلى مسار مستدام.

ولا يمكن فهم هذا التحوّل خارج منطق أوسع بات يحكم الجغرافيا في جنوب الجزيرة العربية، حيث لم تعد الحدود تُدار بمنطق الفصل السياسي الصلب، بل بمنطق التشابك الاقتصادي والأمني. فكما أعادت حركة التجارة والطاقة تعريف الموانئ وخطوط العبور في المنطقة، بات الاستقرار في الجنوب عاملا مباشرا في منظومة المصالح السعودية، لا بوصفه مشروع وحدة سياسية، بل حلقة في سلسلة اقتصاد إقليمي متداخل.

ما تغيّر في الجنوب ليس موازين القوة العسكرية بقدر ما تغيّر تعريف الصراع نفسه، فالتطورات الأخيرة في وادي حضرموت والمهرة أعادت رسم الحدود السياسية للأزمة، وحوّلت الجنوب العربي من هامش تابع للمسار اليمني إلى مسار قائم بذاته، له منطقه السياسي وتوقيته المختلف وكلفته المنفصلة عن تعقيدات الصراع في صنعاء.

وبهذا المعنى، لم تعد عدن مجرد ساحة ضمن مشهد أوسع، بل أصبحت عاملا مؤثرا في إعادة ترتيب المعادلة الإقليمية.

وعلى مدى عقود، تعاملت الرياض مع صنعاء ضمن مقاربة هدفت إلى احتواء الانفجارات المتكررة أكثر من إعادة تصميم الإطار السياسي للصراع.

ونجحت هذه المقاربة مرحليا في تجميد دورات عنف حادة، لكنها فشلت استراتيجيا في إنتاج استقرار دائم، ما جعل الكلفة تتراكم بمرور الوقت سياسيا وأمنيا واقتصاديا، بدل أن تُحل من جذورها.

بل إن سياسة إدارة الأزمة وترحيلها لم تكن حيادية، بل أسهمت عمليا في توسيع الهوّة وتعميق الصراع، إلى أن وصلت الأمور إلى هذه الأزمة المستفحلة.

وفي هذه اللحظة، لم يقفز الجنوب خارج هذا المسار طلبا للنجاة الذاتية فحسب، بل بوصفه محاولة لإنقاذ الإقليم من انزلاق أوسع، وحماية مكسب سياسي وعسكري كبير كلّف التحالف أموالا طائلة، واستنزف الاقتصاد، وترك أثره على السمعة الدولية.

ولم يعد استمرار الأزمة اليمنية بصيغتها الحالية يعني صراعا داخليا فحسب، بل تحوّل إلى مصدر تهديد متعدد المستويات "حدود مفتوحة، نفوذ إقليمي متزايد، وممرات بحرية باتت عرضة للاستخدام السياسي والأمني.

وفي هذا السياق، لم يعد السؤال كيف تُدار الأزمة، بل كم تكلّف، وكم ستظل هذه الكلفة مفتوحة بلا سقف زمني واضح.

خلال متابعتي الطويلة لمسار الأزمة اليمنية، لم يَبدُ خيار أقل كلفة من هذا المسار، قدّم الجنوب نموذجا مختلفا في التعاطي مع المملكة. فمنذ بروز المجلس الانتقالي الجنوبي، اتسم السلوك السياسي الجنوبي بقدر عالٍ من البراغماتية والاستعداد للتكيّف مع المقاربات السعودية، حتى عندما تعارض ذلك مع حساباته الآنية (التخلي عن الإدارة الذاتية) قبل أعوام.

ولم يكن هذا السلوك تعبيرا عن ضعف، بل إدراكا لطبيعة الشراكة الممكنة، ولحاجة الإقليم إلى مسارات أقل تصادما وأكثر قابلية للتثبيت.

ورغم ذلك، جرى التعامل مع الجنوب بوصفه ملفا تابعا للأزمة اليمنية الأوسع، لا كفرصة لإعادة ضبط المعادلة. هذا الإبقاء القسري داخل إطار متعثر لم يحمِ وحدة المسار، بل عطّل إمكانية الاستفادة من مسار أقل تعقيدا وأكثر قابلية للاستقرار، وأضاع على المملكة خيارا كان يمكن أن يقلّص الكلفة بدل أن يوسّعها.

وتتقاطع هذه التحولات مع الرؤية السعودية الأوسع الرامية إلى خفض التوترات الإقليمية والانتقال من إدارة الأزمات إلى إنتاج حلول مستدامة.

وفي هذا السياق، لا يبدو الجنوب عبئا إضافيا على هذه الرؤية، بل أحد مفاتيحها الممكنة، بوصفه مسارا سياسيا أوضح، وشريكا أكثر قابلية للضبط، وخيارا أقل استنزافا على المديين المتوسط والبعيد.

ولا تكمن كلفة تجاهل هذا التحول في تعقيد المشهد اليمني فحسب، بل في تفويت خيار أقل كلفة وأكثر قابلية للتحكم. فتبنّي مقاربة مختلفة تجاه الجنوب يفتح أمام المملكة مسارا أقصر زمنيا، وأخف أمنيا، وأكثر وضوحا في النتائج، مقارنة بالاستمرار في إدارة أزمة أثبتت السنوات الماضية أنها بلا نهاية محددة.

ولم يعد الجنوب جزءا من مشكلة اليمن، بل أصبح جزءا من حل إقليمي أوسع. والفرق بين الخيارين، بالنسبة للمملكة العربية السعودية، ليس سياسيا فقط، بل استراتيجيا من حيث الكلفة والوقت وإمكانية الخروج النهائي من دوامة إدارة الأزمات إلى أفق أكثر استقرارا وربحية.

ومن شأن قيام دولة جنوبية قائمة ومستقرة، تسهم السعودية بدور رئيسي في دعمها، تقليص أشكال التوتر المزمنة على الحدود منذ ستينات القرن الماضي، عندها يمكن أن تتحول الحدود من خط تماس إلى منطقة إدارة مخاطر، بما يوفّر حماية أعلى لأي تهديد محتمل، ويفتح المجال أمام علاقة شراكة اقتصادية مستقبلية أكثر نضجا، تتجاوز أثقال الماضي.

وتبدأ العلاقة بين الجنوب والسعودية من الجغرافيا. فالحدود الجنوبية للمملكة ليست مجرد خط سيادي، بل مساحة أمنية نشطة تتأثر مباشرة بوجود الدولة أو غيابها على الضفة الأخرى. غياب كيان جنوبي مستقر حوّل هذه الحدود إلى مصدر تهديدات مركبة تشمل التهريب والتسلل وشبكات الجريمة العابرة، فضلا عن ضغط أمني دائم.

وفي المقابل، وجود سلطة جنوبية واضحة ومسؤولة يعيد تعريف الحدود بوصفها مجال شراكة أمنية لا ساحة استنزاف.

ولا يمثل الجنوب ساحة مواجهة مع المملكة، بل فرصة لشراكة ضبط أمني، تاريخيا، لم يشكّل الجنوب تهديدا مباشرا للأمن السعودي، بخلاف مناطق أخرى تحولت إلى منصات نفوذ إقليمي معادٍ. المقاربة الواقعية ترى في الجنوب شريكا قادرا على المساهمة في تأمين الحدود، ومكافحة التهريب، وتقليص مساحات الفوضى.

وبمعنى أدق، الجنوب أصل أمني وحليف محتمل لا عبئا إضافيا على المملكة وجيرانها، فهذا الإقليم يمتد على شريط بحري حيوي يلامس بحر العرب وخليج عدن وباب المندب، واستقراره لا يخدم فقط المكاسب العسكرية والأمنية التي تحققت خلال السنوات الماضية، من خلال عملية عاصفة الحزم التي قادتها الرياض، بل يشكّل ركيزة أساسية لأمن الملاحة والطاقة، وهو ملف يهم السعودية بوصفها لاعبا مركزيا في سوق الطاقة العالمي.

دولة جنوبية مستقرة ومنخرطة في منظومة الأمن الإقليمي تعني شريكا في حماية الممرات البحرية، لا مصدر قلق دائم. فاستقرار الجنوب هو، في جوهره، استقرار أحد أعصاب الاقتصاد السعودي.

في المقابل، فإن الاستمرار في التعامل مع الجنوب بوصفه جزءا من أزمة يمنية مفتوحة يعني استمرار نزيف الموارد بلا سقف زمني. أما فتح مسار جنوبي واضح، فيتيح تحويل العلاقة من كلفة أمنية مستمرة إلى عائد تنموي، عبر مشاريع حدودية، وموانئ، وطاقة، واستثمارات مرتبطة برؤية المملكة 2030.

وانطلاقا من قراءة متأنية وحسابات سياسية وجيوسياسية، يصبح دعم قيام دولة جنوبية مستقرة في جنوب الجزيرة العربية خيارا منطقيا يتيح للسعودية أن تكون لاعب تشكيل لا لاعب ردّ فعل. فوجود دولة مستقرة يوسّع هامش المبادرة السعودية إقليميا بدل حصرها في إدارة الأزمات.

ولا يشكّل هذا المسار أي إخراج للسعودية، حتى في ما يتعلق بمسألة تقسيم اليمن. فاليمن، في واقعه التاريخي والسياسي، لم يعرف وحدة مستقرة بالمعنى الحقيقي. وكانت السعودية في صف الجنوب خلال الحرب على عدن، واليوم فإن دعم مشروع الدولة الجنوبية يعني، بشكل أو بآخر، الوقوف في الموقف ذاته الذي جعل عدن خطا أحمر أمام التمدد الإيراني.

ما تحتاجه الرياض اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو استثمار هذه اللحظة التاريخية، والتقاط القفزة الجنوبية خارج ملف الأزمة اليمنية المعقدة، فإغلاق هذا الملف يفتح الباب أمام حلول دائمة تمنح السعودية استقرارا على حدودها الجنوبية، وتقلل من كلفة إدارة الصراع، وتضع حدا لأي تدخلات إيرانية مستقبلية.

كما انه من الممكن جداً ان يشكل الجنوب متنفسا للقوى اليمنية المناهضة للحوثيين، ليست على الطريقة التي ادارت فيها القوى اليمنية الانقلاب على نظام الامامة في خمسينات القرن الماضي، ولكن بشكل أخر وبقدرة أكثر على صناعة التأثير بما يعيد لليمن استقراره السياسي والاقتصادي وبناء علاقة مع جيرانه.