عرب وعالم

الإثنين - 22 ديسمبر 2025 - الساعة 03:24 م بتوقيت اليمن ،،،

نبيل عبد الله صالح


أثارت صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل موجة واسعة من الجدل السياسي والإعلامي، وجرى تصويرها من قبل بعض التيارات المعارضة على أنها خروج عن الموقف المصري التاريخي من الصراع العربي–الإسرائيلي، أو انزلاق نحو التطبيع الاقتصادي الذي يتناقض مع دعم القاهرة للقضية الفلسطينية. غير أن هذا الجدل، في جوهره، يعكس خلطًا خطيرًا بين التكتيك الاقتصادي والثابت الاستراتيجي، وبين إدارة الصراع والتخلي عن الموقف.
إن قراءة هذه الصفقة خارج سياقها الحقيقي لا تسيء فقط إلى القرار المصري، بل تُظهر قصورًا في فهم طبيعة الدولة المصرية، وعقيدتها السياسية، وطريقة إدارتها للملفات المعقدة.

أولًا: ما هي صفقة الغاز في حقيقتها؟
صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل ليست تحالفًا سياسيًا ولا اتفاقًا استراتيجيًا شاملًا، بل هي ترتيب اقتصادي–فني يتعلق بتصدير الغاز الطبيعي من حقول شرق المتوسط إلى محطات الإسالة المصرية، ومن ثم إعادة تصديره إلى الأسواق العالمية، وخصوصًا أوروبا.

القيمة التقديرية للصفقة تصل إلى نحو 30–35 مليار دولار، وتمتد حتى عام 2040، وتُنفذ في معظمها عبر شركات طاقة ضمن أطر قانونية وتجارية، لا عبر اتفاق سياسي مباشر يغيّر طبيعة العلاقة بين الدولتين.

ثانيًا: هل تمتلك مصر بنية تحتية لإسالة الغاز؟
الإجابة الواضحة: نعم، وبلا منافس إقليمي حقيقي.
مصر هي الدولة الوحيدة في شرق المتوسط التي تمتلك بنية إسالة غاز متكاملة وجاهزة، تشمل:
محطة إدكو بطاقة كبيرة وخبرة تشغيلية طويلة.
محطة دمياط التي أعيد تشغيلها بكفاءة عالية.
شبكة أنابيب وموانئ وبنية لوجستية متقدمة.
هذه البنية لم تُبنَ من أجل إسرائيل، بل هي نتاج رؤية استراتيجية مصرية قديمة تهدف إلى جعل مصر مركزًا إقليميًا للطاقة.

ثالثًا: لماذا لا تملك إسرائيل محطات إسالة؟
غياب البنية التحتية الإسرائيلية ليس صدفة، بل نتيجة عوامل حاسمة:
التكلفة الباهظة لإنشاء محطات الإسالة (8–12 مليار دولار للمحطة الواحدة).
المخاطر الأمنية؛ فمحطات الإسالة منشآت سيادية شديدة الحساسية، وإسرائيل لا تستطيع تأمينها في ظل تهديدات صاروخية حقيقية.

الضيق الجغرافي؛ إسرائيل دولة صغيرة لا تملك مساحات ساحلية آمنة كافية.
عدم الجدوى الاستثمارية في ظل سوق محدود ومخاطر عالية.
لهذه الأسباب، فإن إسرائيل غير قادرة عمليًا على تصدير غازها دون المرور عبر بنية دولة أخرى.

رابعًا: هل لدى إسرائيل بدائل عن مصر؟
نظريًا قد تُطرح بدائل مثل قبرص أو تركيا أو المحطات العائمة، لكن عمليًا:
قبرص لا تملك محطات إسالة، وتحتاج سنوات واستثمارات ضخمة.
تركيا خيار سياسي غير مستقر ومليء بالحساسيات.
المحطات العائمة مكلفة، محدودة الطاقة، وعالية المخاطر.

الخلاصة:
مصر ليست الخيار الأفضل لإسرائيل فقط، بل الخيار الوحيد الجاهز والآمن والأقل كلفة.

خامسًا: من يحتاج من؟
في هذا الملف تحديدًا:
إسرائيل تملك الغاز.
لكن مصر تملك المفتاح.
مرور الغاز الإسرائيلي عبر الأراضي والمنشآت المصرية يعني:
فقدان إسرائيل استقلالها التصديري.
تحوّل مصر إلى بوابة إجبارية للطاقة.
امتلاك القاهرة ورقة ضغط استراتيجية حقيقية في أي توتر سياسي.
وهنا يتضح أن الصفقة تعزّز النفوذ المصري ولا تنتقص منه.

سادسًا: هل هذه الصفقة تطبيع؟
التطبيع يعني قبولًا سياسيًا وثقافيًا وأخلاقيًا.
أما ما جرى فهو تعامل اقتصادي محسوب لا يغيّر من:
عقيدة الجيش المصري.
ثقافة المجتمع المصري.
نظرة الدولة العميقة لإسرائيل كعدو تاريخي.

مصر لم ترفع مستوى العلاقات، ولم تغيّر خطابها، ولم تدخل في تحالفات أمنية أو سياسية جديدة.

سابعًا: أين فلسطين من كل ذلك؟
الموقف المصري من القضية الفلسطينية ثابت ولم يتبدل:
رفض التهجير.
رفض تصفية القضية.
دعم حل عادل.
دور حاسم في الوساطات ووقف إطلاق النار.

لم تُستخدم صفقة الغاز يومًا للضغط على الفلسطينيين، ولم تتحول مصر إلى أداة في يد إسرائيل، بل بقيت – كما كانت – عامل توازن وكبح.

ثامنًا: البعد الشرعي
من الناحية الشرعية:
المعاملات الاقتصادية مع الخصم جائزة إذا لم تتضمن موالاة أو نصرة على المسلمين.
المحرّم هو التفريط بالأرض أو الحقوق أو التحالف ضد الأمة.

وهو ما لا ينطبق على هذه الصفقة.
وقد تعامل النبي ﷺ مع خصومه بيعًا وشراءً في سياق إدارة الصراع، لا إلغائه.

تاسعًا: مصر كدولة لا تُدار بالعاطفة
الدولة المصرية، بتاريخها وعمقها، لا تُدار بردود فعل شعبوية، بل بعقل استراتيجي يوازن بين:
المصالح والأمن والثوابت القومية

من يظن أن صفقة غاز يمكن أن تغيّر موقع فلسطين في الوعي المصري، أو تنقل إسرائيل من خانة العدو إلى خانة الصديق، لا يعرف مصر ولا تاريخها.

خاتمة
صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل ليست خروجًا عن الموقف الوطني، بل أداة من أدوات إدارة الصراع في مرحلة دولية معقدة.

مصر لم تصالح إسرائيل، ولم تتخلَّ عن فلسطين، ولم تفرّط في ثوابتها، لكنها استخدمت الاقتصاد كوسيلة قوة، لا كعلامة ضعف.

فمصر، كما كانت دائمًا، تعرف متى تقاتل، ومتى تفاوض، ومتى تجعل من الجغرافيا والبنية التحتية سلاحًا صامتًا في صراع طويل لم يُحسم بعد.