عبد الكريم سليمان العرجان
بينما تتسمر عيون العالم على مضيق باب المندب، وتنشغل عواصم القرار بحسابات الردع في البحر الأحمر، تجري في الخلفية عملية إعادة هندسة صامتة وخطيرة لما يمكن تسميته بـ”اليمن المنسي”.
الخطأ الاستراتيجي القاتل الذي يقع فيه معظم المحللين والمبعوثين الدوليين اليوم هو حصر المشهد اليمني في ثنائية (صنعاء – عدن)، متجاهلين حقيقة صارخة: مركز الثقل الحقيقي قد غادر هذه المعادلة القديمة واتجه شرقًا، تحديدًا نحو المهرة وحضرموت.
نحن اليوم لا نشهد مجرد تحركات عسكرية روتينية أو مناوشات قبلية عابرة، بل نرى سباقًا محمومًا لملء الفراغ في “الخزان النفطي والاستراتيجي” لليمن. ما يحدث في الشرق ليس امتدادًا للحرب الأهلية التقليدية التي اندلعت قبل عقد، بل هو تدشين لفصل جديد كليًا من الصراع: “حرب الموارد والممرات”.
وما يغيب عن طاولات المفاوضات في الغرف المغلقة، هو أن الخرائط التي يضعها المبعوثون الأمميون لم تعد تطابق الواقع على الأرض. لقد خلقت سنوات الحرب واقعًا ديموغرافيًا واقتصاديًا جديدًا في الشرق لا يمكن شطبه بجرة قلم في اتفاق سلام هش.
لقد هاجرت رؤوس الأموال، والكتل البشرية، والنخب التجارية من مراكز الصراع التاريخية في الهضبة الشمالية والجنوبية، لتستقر في الشرق، خالقةً ما يشبه “دويلات الأمر الواقع” الاقتصادية. ويكفي النظر إلى الارتفاع الجنوني في أسعار العقار في المهرة، وتحول مدن نائية مثل “الغيضة” إلى ورش بناء لا تتوقف بأموال قادمة من الشمال والجنوب، لندرك أين يضع التاجر اليمني رهانه المستقبلي. هذه المناطق، التي كانت توصف بالهامشية، باتت اليوم تمتلك مقومات “الدولة” أكثر من العواصم التقليدية التي أنهكتها الشعارات والإيديولوجيا.
إن القراءة المتأنية لحركة التحالفات القبلية الأخيرة في الهضبة الحضرمية وصحراء المهرة تشي بأن الولاءات التقليدية تتفكك لصالح تحالفات “المصلحة البحتة”. القبيلة هناك، والتي كانت دائمًا بيضة القبان، لم تعد مجرد ورقة ضغط بيد المركز، بل تحولت إلى لاعب جيوسياسي يفرض شروطه على القوى الإقليمية.
لقد أدرك “عقال” الشرق وكبار لاعبيه أن الصراع القادم ليس على من يجلس على كرسي الحكم في صنعاء، بل على من يمسك بصنبور النفط وبوابة المحيط الهندي المفتوحة، بعيدًا عن خنق المضائق.
وهنا نصل إلى جوهر المعضلة التي يتحاشى الجميع الحديث عنها: نحن أمام انقسام وظيفي حاد يقسم الخارطة اليمنية إلى شطرين غير متكافئين؛ “يمن ديموغرافي” في الغرب والشمال يغرق في الكثافة السكانية وشح الموارد، و”يمن اقتصادي” في الشرق يمتلك الأرض والنفط والمنافذ مع كثافة سكانية منخفضة.
هذا الاختلال الهيكلي يعني أن العلاقة القادمة بين الطرفين لن تكون علاقة تكامل، بل علاقة “افتراس”، حيث سيسعى المركز الجائع دائمًا للزحف نحو الأطراف الغنية، بينما ستلجأ الأطراف إلى التحصن خلف “متاريس” إقليمية ودولية لصد ما تراه “غزوًا” وليس وحدة. هذه المعادلة الصفرية هي التي ستفشل أي حل سياسي يتجاهل حقائق الاقتصاد السياسي الجديدة.
الخطير في هذا المشهد، هو أن الشرق اليمني، الذي ظل لعقود منطقة “تصفير مشاكل” وملاذًا آمنًا بعيدًا عن الاستقطاب الحاد، يتحول الآن ببطء إلى رقعة شطرنج لتصفية حسابات إقليمية تتجاوز الملف اليمني نفسه.
التحركات الأخيرة تشير بوضوح إلى أن هناك من يريد تحويل هذه الجغرافيا الشاسعة إلى “منطقة نفوذ مغلقة”، وفصل مسارها ومصيرها تمامًا عن تعقيدات الحل السياسي الشامل في اليمن، مما يضع وحدة البلاد الجغرافية – وليس السياسية فقط – في مهب الريح.
السؤال الذي يجب أن يطرحه العقل السياسي البارد اليوم ليس “متى تتوقف الحرب؟”، بل “ما هو شكل الدولة القادمة؟”. المعطيات الصلبة في المحافظات الشرقية تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن فكرة “المركزية” قد ماتت ودُفنت تحت رمال المهرة.
نحن أمام واقع جديد يُفرض بالحديد والنار والمال: يمن برؤوس متعددة، حيث يملك الشرق قراره الاقتصادي ومفتاحه البحري، بينما يغرق الغرب في صراعات الأيديولوجيا والبحث عن شرعية مفقودة.
إن تجاهل هذا التحول الدراماتيكي في شرق اليمن، والاستمرار في قراءة المشهد من زاوية الصراع التقليدي، هو قصر نظر سياسي فادح سيدفع الجميع ثمنه.
فمن يسيطر على الشرق اليوم، لن يسيطر على اليمن فحسب، بل سيمسك بأحد أهم مفاتيح الأمن القومي للجزيرة العربية وطرق الطاقة العالمية لعقود قادمة.