عرب وعالم

الإثنين - 15 ديسمبر 2025 - الساعة 11:37 ص بتوقيت اليمن ،،،

العرب


يعكس التقارب السعودي–الصيني المتجدد، والذي تجلّى في لقاء وزيري خارجية البلدين في الرياض ألأحد، تحوّلاً نوعياً في موقع المملكة داخل معادلة التوازنات الدولية.

وبعيداً عن كونه تطوراً ثنائياً محضاً، يأتي هذا التنسيق في سياق أوسع يعكس سعي السعودية إلى ترسيخ دورها كقوة توازن بين الشرق والغرب، في مرحلة تتسم بتصاعد الاستقطاب الدولي وتراجع قدرة النظام العالمي على إنتاج تسويات مستقرة.

ولم تعد السياسة الخارجية السعودية تُقرأ من زاوية التحالفات التقليدية وحدها، بل باتت تُدار وفق مقاربة أكثر مرونة وتعدداً، تتيح للمملكة الحفاظ على شراكاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والغرب، بالتوازي مع تعميق علاقاتها مع قوى صاعدة في الشرق، وفي مقدمتها الصين.

ويمنح هذا التوازن المدروس الرياض هامش مناورة أوسع في التعامل مع الأزمات الإقليمية والدولية، ويعزز قدرتها على لعب أدوار تتجاوز حدودها الجغرافية.

ويرى مراقبون أن زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى الرياض ضمن جولته الشرق أوسطية ليست حدثاً بروتوكولياً، بل تعكس إدراك بكين المتزايد لأهمية السعودية بوصفها لاعباً مركزياً لا يمكن تجاوزُه في أي معادلة استقرار إقليمي.

كما أن إشادة الصين بالدور "الرائد" للمملكة في تعزيز الأمن والاستقرار إقليمياً ودولياً تمثل اعترافاً دولياً بدبلوماسية سعودية باتت أكثر حضوراً وتأثيراً، خصوصاً في ملفات كانت حكراً على القوى الكبرى.

ومنذ سنوات، تعمل السعودية على إعادة تعريف دورها الخارجي، من دولة متلقية للتوازنات إلى دولة صانعة لها.

ويبرز ذلك بوضوح في نجاحها في استئناف العلاقات مع إيران ، برعاية صينية، وهو ما شكّل نموذجاً عملياً لدبلوماسية التوازن: السعودية لاعب إقليمي أساسي، والصين شريك دولي غير غربي، في مقابل تراجع الدور الأميركي التقليدي في إدارة بعض ملفات الشرق الأوسط.

وفي هذا السياق، فإن دعم الصين لتعزيز العلاقات السعودية–الإيرانية لا يُقرأ فقط بوصفه موقفاً صينياً داعماً للاستقرار، بل أيضاً كاعتراف بالدور السعودي في إدارة التناقضات الإقليمية. فالمملكة، التي تمتلك علاقات وثيقة مع الغرب، نجحت في فتح قنوات حوار مع خصومه الإقليميين، دون أن تتحول إلى طرف في صراع المحاور، وهو ما يمنحها مصداقية نادرة في بيئة سياسية شديدة الاستقطاب.

ويكتسب هذا الدور التوازني بعداً إضافياً في الموقف المشترك من القضية الفلسطينية. فالتأكيد السعودي–الصيني على حل الدولتين ومرجعيات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية يضع الرياض في موقع الوسيط المبدئي الذي يحافظ على ثوابته السياسية، وفي الوقت ذاته ينفتح على شراكات دولية جديدة لا تتبنى ازدواجية المعايير الغربية في هذا الملف.

وهنا، تتحول السعودية إلى حلقة وصل بين خطاب دولي شرقي يدعو لاحترام القانون الدولي، ومطالب عربية تاريخية تبحث عن رعاية دولية أكثر توازناً.

ومن جهة أخرى، تدرك الرياض أن التحولات الجارية في النظام الدولي تفرض عليها عدم الارتهان لقوة واحدة، خصوصاً في ظل تذبذب الالتزام الأميركي تجاه قضايا الشرق الأوسط.

ولذلك، فإن تعزيز الشراكة مع الصين لا يعني القطيعة مع واشنطن، بل يندرج ضمن سياسة تنويع الخيارات، وبناء شبكة علاقات دولية متعددة الأقطاب، تضمن للمملكة حماية مصالحها الاستراتيجية بعيداً عن الضغوط السياسية.

واقتصادياً، يشكل هذا التوازن رافعة إضافية لرؤية السعودية 2030، التي تتطلب بيئة دولية مستقرة وشراكات متنوعة في مجالات الطاقة والاستثمار والتكنولوجيا. فالصين شريك اقتصادي محوري، بينما يظل الغرب مصدراً رئيسياً للتكنولوجيا والخبرات، وهو ما يجعل السعودية في موقع فريد يسمح لها بالاستفادة من الطرفين دون الانحياز الكامل لأيٍّ منهما.

وسياسياً، تمنح هذه المقاربة السعودية قدرة أكبر على لعب دور "الوسيط الموثوق"، سواء في النزاعات الإقليمية أو في القضايا الدولية المتشابكة. فالمملكة باتت تُقدَّم كدولة قادرة على التحدث مع الجميع، من واشنطن إلى بكين، ومن العواصم العربية إلى طهران، دون أن تفقد موقعها أو مصداقيتها.

ويوضح خبراء أن التنسيق السعودي–الصيني ليس خروجاً عن التحالفات التقليدية، بل إعادة تموضع ذكية داخل نظام دولي متحوّل. السعودية اليوم لا تختار بين الشرق والغرب، بل تصوغ معادلة توازن تجمع بينهما، مستفيدة من ثقلها السياسي والاقتصادي والديني.

وفي عالم يتجه نحو تعددية قطبية غير مستقرة، تبدو المملكة مرشحة لأن تكون إحدى قوى التوازن القليلة القادرة على الربط بين الأقطاب، بدل الارتهان لصراعاتها.