أخبار وتقارير

الإثنين - 15 ديسمبر 2025 - الساعة 11:34 ص بتوقيت اليمن ،،،

العرب


في لحظة إقليمية تتسم بإعادة ترتيب الأولويات وتراجع منسوب التصعيد المباشر، تعود مفاوضات تبادل الأسرى في اليمن إلى واجهة المشهد، محمولة هذه المرة على رهان دولي متجدد على الوساطة العُمانية، وعلى خطاب حوثي يتحدث عن “أجواء إيجابية” في النقاشات الجارية مع الحكومة الشرعية في العاصمة مسقط.

ورغم الطابع الإنساني الظاهر لهذا الملف، إلا أن قراءة متأنية تكشف أنه بات جزءًا لا يتجزأ من معادلة إدارة النزاع اليمني، أكثر منه خطوة على طريق حسمه.

وقال نائب رئيس الهيئة الإعلامية للحوثيين نصر الدين عامر السبت إنّ "المفاوضات تجري وسط أجواء إيجابية”، دون مزيد من التفاصيل.

ومنذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عقد، فشلت المبادرات الدولية المتلاحقة في إنتاج تسوية سياسية شاملة، فيما نجحت، في المقابل، مسارات جزئية في احتواء الانفجار ومنع تمدده إقليميًا.

وفي هذا الإطار، تبرز سلطنة عُمان بوصفها الفاعل الأكثر قبولًا لدى مختلف الأطراف، نظرًا لسياستها القائمة على الحياد الإيجابي، وابتعادها عن الاستقطاب الحاد الذي ميّز أدوار عواصم أخرى.

ويقول محللون إن هذا ما جعل مسقط تتحول تدريجيًا إلى منصة لإدارة النزاع، لا لحلّه، عبر فتح قنوات تواصل خلفية، وتسهيل تفاهمات محدودة تتعلق بالتهدئة والملفات الإنسانية.

ولا ينطلق الرهان الدولي على الوساطة العُمانية من فراغ. فالمجتمع الدولي، وفي مقدمته الأمم المتحدة، بات أكثر واقعية في مقاربته للأزمة اليمنية، مدركًا أن الظروف الراهنة لا تسمح بفرض تسوية نهائية.

ولذلك، يجري التركيز على منع تدهور الوضع الإنساني، والحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، خصوصًا في ظل تداخل الصراع اليمني مع حسابات أمن الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن، ومع توازنات إقليمية أوسع.

وفي هذا السياق، يأتي استئناف مفاوضات تبادل الأسرى في مسقط، بإشراف المبعوث الأممي هانس غروندبرغ، كجزء من هذه المقاربة الواقعية. فملف الأسرى يُعد من الملفات القليلة التي يمكن تحقيق تقدم فيها نسبيًا، نظرًا لإجماع الأطراف، ولو شكليًا، على طابعه الإنساني. كما أنه يشكّل أداة لبناء إجراءات ثقة محدودة، يمكن استثمارها لاحقًا في ملفات أكثر تعقيدًا.

ولا يمكن فصل حديث جماعة الحوثي عن “أجواء إيجابية” في المفاوضات عن هذا الإطار. فالجماعة، التي تسيطر على مساحات واسعة من شمال اليمن، تدرك أهمية الظهور بمظهر الطرف المنفتح على الحلول الإنسانية،

خصوصًا في ظل الضغوط الدولية المتزايدة المرتبطة بحقوق الإنسان والوضع المعيشي في مناطق سيطرتها. كما أن إبراز استمرار التفاوض برعاية الأمم المتحدة يعكس حرص الحوثيين على ربط أي تقدم بإطار أممي يمنحهم هامش شرعية سياسية، ويعزز موقعهم التفاوضي مستقبلًا.

غير أن هذا الخطاب الإيجابي، في غياب تأكيد رسمي مماثل حتى الأن من الحكومة اليمنية أو الأمم المتحدة، يشي بحذر متبادل. فالتجربة اليمنية مليئة بإعلانات تفاؤل سرعان ما تبخرت أمام أول اختبار جدي.

وغالبًا ما تُستخدم توصيفات مثل “أجواء إيجابية” لتهيئة الرأي العام، أو لتحسين شروط التفاوض، من دون أن تعني بالضرورة اقتراب التوصل إلى اتفاق ملموس.

ومن زاوية الحكومة الشرعية، فإن الصمت النسبي إزاء هذه التصريحات يعكس إدراكًا لحساسية ملف الأسرى على الصعيد الداخلي. فالأسرى والمعتقلون يمثلون جرحًا مفتوحًا في المجتمع اليمني، حيث لا تزال آلاف العائلات تجهل مصير أبنائها منذ سنوات. وأي تقدم في هذا الملف يُحسب سياسيًا للحكومة، لكنه في الوقت ذاته يحمل مخاطر إذا ما بدا وكأنه تنازل غير متوازن، أو اعتراف ضمني بواقع فرضته الحرب.

وتفرض التجارب السابقة قدرًا كبيرًا من الحذر. ففي أبريل 2023، شهد اليمن أكبر عملية تبادل للأسرى، شملت نحو 900 شخص من الجانبين، بوساطة دولية وإقليمية مكثفة.

ورغم الأثر الإنساني الكبير لتلك الصفقة، فإنها لم تُستثمر سياسيًا لإطلاق مسار سلام أوسع، وبقيت حدثًا معزولًا في سياق صراع لم تتغير معادلاته الأساسية. كما أن الإفراج الأحادي الذي نفذه الحوثيون مطلع عام 2025 عن 153 أسيرًا، حمل رسائل سياسية واضحة، أكثر مما شكّل تحولًا بنيويًا في التعاطي مع الملف.

ويبقى الغموض مسيطرًا على الأرقام الحقيقية للأسرى والمعتقلين لدى الطرفين. فبينما تشير تقديرات تعود إلى مشاورات ستوكهولم عام 2018 إلى وجود أكثر من 15 ألف أسير، تذهب مصادر حقوقية إلى أن العدد قد يتجاوز 20 ألفًا.

ويعكس هذا التباين حجم المأساة الإنسانية، ويبرز محدودية أي اتفاق جزئي لا يتضمن رؤية شاملة لمعالجة الملف بكامله، بعيدًا عن الانتقائية والتوظيف السياسي.

وفي المقابل، يراهن المجتمع الدولي على أن نجاح مسقط في إدارة هذا الملف قد يساهم في تثبيت التهدئة الهشة القائمة منذ أبريل 2022. فاستمرار الهدوء النسبي، رغم خروقات متقطعة، يُعد إنجازًا بحد ذاته في نزاع طويل الأمد. كما أن الحفاظ على قنوات التواصل المفتوحة يقلل من احتمالات الانزلاق إلى تصعيد واسع، في وقت تشهد فيه الساحة اليمنية، ولا سيما في الجنوب، تطورات أمنية مقلقة تعيد إلى الواجهة مخاوف التقسيم وتعدد مراكز القوة.

ومن هذا المنظور، لا تُقرأ مفاوضات الأسرى بمعزل عن المشهد الأوسع. فهي جزء من محاولة لإدارة الصراع، وتفكيكه إلى ملفات قابلة للاحتواء، بدل السعي إلى حل شامل قد يبدو بعيد المنال في المرحلة الراهنة. وهذا ما يفسر تركيز الجهود الدولية على مسارات إنسانية واقتصادية وأمنية محدودة، بدل طرح مبادرات سياسية كبرى.

وفي المحصلة، يعكس الحديث عن أجواء إيجابية في مفاوضات الأسرى تقاطعًا بين رهان دولي على الوساطة العُمانية كأداة لإدارة النزاع اليمني، ومحاولة حوثية لتسويق صورة أكثر مرونة وانفتاحًا. غير أن هذا التقاطع، على أهميته، يظل محكومًا بسقف سياسي منخفض. فملف الأسرى، رغم رمزيته الإنسانية، لا يستطيع وحده كسر الجمود السياسي، ما لم يُستثمر ضمن رؤية أوسع تعالج جذور الصراع، وتعيد الاعتبار لمسار سلام حقيقي ينهي حربًا أنهكت اليمن وأدخلته في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.