أخبار وتقارير

الجمعة - 10 أكتوبر 2025 - الساعة 03:03 م بتوقيت اليمن ،،،

شرح وتعليق أ. د عبدالله عبدالله عمر


في لوحة شعرية فريدة تجمع بين لغة العشق وروح القانون، يطلّ علينا الشاعر أحمد مهدي ناجي (الحراجي) بنصٍ بديعٍ بعنوان "الحراجي ورفعه دعوى جنائية (عاطفية) في المحكمة"، يشرحها ويعلّق عليها الأستاذ الدكتور عبدالله عبدالله عمر، في معالجة أدبية رشيقة تُحاكي الواقع بروح الدعابة والذكاء.

يسبق نصَّ المنظومة توطئةٌ ومناسبةٌ وأطراف الدعوى، ويلحقه الشرح والتعليق وفي هذا العمل الأدبي النادر، يصوغ الشاعر مشاعره بلغةٍ قضائيةٍ تُحيل الحبَّ إلى قضية منظورة أمام محكمة العاطفة، في تماسكٍ لغوي ودلاليٍ يجمع بين بلاغة الشعر ومنطق القانون.

تُجسّد القصيدة حكاية شاعرٍ وجد نفسه في موقفٍ عاطفيٍ لا يخلو من الطرافة والصدق، إذ يتقدّم بشكوى ضد "غزالٍ" أسر قلبه وسبى فؤاده بنظرةٍ وابتسامةٍ عابرة، ليحوّلها إلى دعوى جزائية عاطفية تتكامل فيها أركان الجريمة والشهود والدليل، غير أنّها تظل جريمةً لا يُعاقب عليها إلا الحب نفسه.

سبق أن أوردنا لأحمد مهدي ناجي المعروف ب ( الحراجي) ثلاث أبيات يذكر فيها نداءه للقضاة للمحكمة؛ لينظروا في مظلمته، وفي هذا المنشور نورد أبيات القصيدة كلها متبوعة بالشرح والتعليق.
وفي القصيدة يتجلی التماسك النصي الدلالي في اختيار الشاعر ألفاظ تتناسب مع جو المنظومة والموضوع الذي تتناوله.
مناسبة المنظومة:
يذكر أحمد مهدي ناجي (الحراجي) سببًا لنظمه هذا الأبيات، فيقول: كان لدي دعوی منظورة في محكمة الحوطة الابتدائية، وأثناء وجودي في المحكمة، فوجئت بنظرة غير مقصودة تبعتها ابتسامة، أتلفت روحي والحشا.
أطراف الدعوی:
المنظومة تتحدث عن دعوی جنائية (عاطفية) تتمثل سبي (حجز حرية) وفي إتلاف الروح والحشا. ومطالبة من قضاة المحكمة بالنظر في الدعوی، وأطراف الدعوی:
١- مدعي مجني عليه (أحمد الحراجي)
٢- مدعِي (متهم) غزال
٣- شهود ( القلب والروح).
نص المنظومة يتبعها التعليق، يقول
يا قضـاهْ يا محكمهْ
أنا عندي مظلمْهْ
جيت أشكي غزالًا
قد سباني مبسمهْ
أتلف الروح والحشا
نارًا فيها أضرمهْ
والشهود روحي وقلبي
ذي بنظرهْ حطمهْ
واللي حيّرني تمام
شي اشتي أفهمهْ
كل شيء أعطاوه حقوق
وصلّحوا له مُنظّمهْ
إلا من حب أو عشِقْ
ليش ما حد يرحمهْ
الشرح وتعليق
يستهل أحمد مهدي ناجي (الحراجي) منظومته بمناداة القضاة ومناداة المحكمة، فيقول:
يا قضاهْ يا محكمهْ
غرض هذه المناداة لفت نظر قضاة المحكمة إلی ما يريد أن يُدلي به المجني عليه (الحراجي)، و تقوم هذا المناداة مقام تقديم الشكوی أو رفع الدعوی، وفي استعمال الشاعر حرف النداء (يا) المختصة بنداء البعيد؛ لبيان مكانة القضاة العالية، ورفعة شأنهم فشبّه البعد في الشأن بالبعد في المكان، وفي البيت الثاني بدأ الشاعر في الكشف عن دعواه و شكواه، وتدرج في بيانها، فنادی القضاة، ثم ذكر أنّ عنده مظلمة، أي أنّه مظلوم، فقال:
أنا عندي مظلمْهْ
استعمل أحمد مهدي ناجي (الحراجي) ضمير المتكلم (أنا) مخبرًا عن شكواه، وأنّه هو مقدِّم الشكوی بنفسه، ولم يُوكِّل محاميًا للترافع عنه؛ لأنّ مثل هذه الدعاوی لا ينفع فيها التوكيل مطلقًا؛ إذ تحتاج إلی مباشرة الدعوی ، كي يستشعر القضاة المظلمة الواقعة علی المجني عليه، فهي مظلمة أحاسيس ومشاعر وخلجات نفس.
ثم انتقل أحمد مهدي ناجي (الحراجي) من العام في دعواه إلی تحديد نوع الدعوی، و أنّه شكوی من غزال صادفه في المحكمة، فتعرّض له وأجرم في حقه، فقال:
جيت أشكي غزالًا
قد سباني مبسمهْ
فأبان أحمد مهدي (الحراجي) أنّه جاء للمحكمة؛.لتقديم شكوی ضد متهم بجناية جزائية عاطفية، و(جيت) أصلها (جئت) غير إنّ الهمزة سُهِّلت، إلی الياء.
أداة الجريمة:
لم يكتفِ أحمد مهدي ( الحراجي) بذكر الجريمة خالية من ذكر أداة الجاني في ارتكاب جريمته، فقال:
جيت أشكي غزالًا
قد سباني مبسمُهْْ
فالغزال (المدعی عليه) هو المتهم، فقد استعمل المتهم مبسمه (وهو سلاح فتّاك)؛ لالحاق الضرر و الأذی بالمجني عليه؛ قكانت أداته في ارتكاب جريمته، فقال :
قد سباني مبسمهْ
السبي جريمة، (حجز حرية)، كون اَلسبي أسر وسجن من غير سجّان ولا مكان سجن، السبي جريمة حجز حرية المجني عليه (الحراجي)، من غير مكان للحجز وهذه جريمة جسيمة وفق القانون، و بعد أن أبان أحمد مهدي ناجي (الحراجي)عن شكواه من المتهم (الغزال)، شرع في بيان آثار الجريمة ونتائجها الكارثية علی المجني عليه، فقال:
أتلف الروح والحشا
نارًا فيها أضرمه
لم يقتصر المتهم علی ارتكاب جريمة حجز حرية في المجني عليه (السبي) بل ارتكاب جريمة أخری كادت تودي بحياة المجني عليه (الشاعر أحمد مهدي ناجي)، فقول الشاعر : (أتلف الروح) والإتلاف تعد جريمة في الشرع وفي القانون، ومن أتلف شيئًا فعليه ضمانة، أو عليه أرش الجناية، ثم أفصح الشاعر أكثر عن نوع الجرم أو الجريمة التي ارتكبها الجاني حين أطلق رصاصات أو أسهم من مبسمه أضمرت النار فتسبّبت في حريق وجداني، فقال:
نارًا فيه أضرمه
تأمّل تعبير الحراجي الرائع وحُسن استعماله أسلوب الاشتغال، (نارًا) المنصوب علی الاشتغال، فكان للتقديم جمال موسيقي وجمال سياقي أعطی أبيات المنظومة تماسك نصي.
وأضرم تشبه أشعل، لكن (أضمر) فيها الإضمار (الإخفاء) وهي أنسب وأجمل من الاشعال، من حيث أن موضع الجريمة ومكانه شي مخفي (مضمر) لا يُری ومثلها جريمة إضمار نار في الحشا.
وأفادت الألفاظ ( قضاة، محكمة، مظلمهْ، أشكي، سباني، أتلف) تماسك نص المنظومة دلاليًا وترابطه وتناسق أبياته.
وحين طلبت المحكمة من المدعي (المجني عليه) شهودًا علی دعواه، فلم يتردد المجني عليه (الشاعر الحراجي) في إحضار شهوده، فقال:
والشهود روحي وقلبي
ذي بنظره حطمهْ
شهود الحراجي اثنان وهو ما تقوم به الدعوی الجزائية. الشاهد الأول الروح والشاهد الثاني القلب، وما أعظمهما من شهود.
والمصيبة أنّ الروح مجني عليها وشاهد في آن واحد، فقد وقع عليها الاتلاف، و ولسان حال الروح هي شهادة بحد ذاتها كافية؛ لتحقق أركان الجريمة.
وفي المقطع الأخير من المنظومة، يكشف أحمد مهدي الحراجي عن وقوعه في حيرة جعلته يتساءل عن سبب الشيء الذي حيّره، فيقول:
واللي حيّرني تمام
شي اشتي أفهمهْ
فهو محتار في أفعال المجتمع، ولم يفهم بعد سبب إعطاء كثير من الأشياء حقوقًا بل وصل الحد بالمجتمع أن قام بإنشاء لهم منظمة،، فقال;
كل شيء أعطاوه حقوق
وصلحوا له منظمهْ
إلا من أحب أو عشِق
ليش ما حد يرحمهه
فالشاعر الحراجي يضع أمام المجتمع وأمام قضاة المحكمة موضوعًا آخر، هو جدير بالاهتمام والنظر فيه، تمثل في أنّ المجتمع أقام منظمة حقوق لكل شيء غير إنّهم لم يراعوا المحبين فتركوهم من غير اهتمام.
دعوة لإنشاء منظمة المجني عليه عاطفيًا.
لكن الحقيقة أنّ المجني عليه في الحقيقة هو الجاني؛ لإطلاقه النظر وتطلعه إلی ما لا يجوز له.
تم المأمول بتوفيق ربنا المشكور