منوعات

الجمعة - 02 يونيو 2023 - الساعة 12:11 ص بتوقيت اليمن ،،،

علي قاسم


في الوقت الذي يطلق فيه البعض صيحات تحذير من مصير أسود ينتظر البشرية، تعمل شركة إنفيديا على تطوير الرقائق، ويصنع رئيسها جينسن هوانغ الأخبار.

التايواني – الأميركي المهاجر الذي اختير واحدا من أكثر 100 شخص تأثيرا في العالم عام 2021 بعد أن مهد الطريق وساعد في إطلاق ثورة تسمح للهواتف الذكية بالإجابة عن أسئلة يطرحها المستخدمون بصوت عال.

كل ما يتخيله المرء أصبح اليوم ممكنا بفضل الرقائق الخارقة التي بفضلها أصبح ممكنا قيادة السيارات الذكية بأمان، وبات بإمكان المزارع التخلص من الأعشاب الضارة دون أن يلحق بالمحاصيل أيّ ضرر، واختصار تجارب كانت تستغرق سنوات لاكتشاف صلاحية الأدوية ليصبح بالإمكان التنبؤ بفعاليتها خلال أيام..

وتحمل إلينا وسائل الإعلام يوميا أخبار منجزات جديدة، آخرها كان ما أعلن عنه منذ يومين وهو ابتكار باحثين في بريطانيا منظومة يمكنها التمييز بين خمسة أنواع فرعية مختلفة من نوبات القلب، مما يزيد من سرعة تشخيص المرض والحفاظ على حياة المرضى، أي إنقاذ حياة الآلاف إن لم يكن الملايين من البشر سنويا. ولا ننسى الفوائد التي جنتها البشرية خلال جائحة كورونا والتي لم يتم بعد إحصاؤها.. بانتظار المزيد من عجائب التطبيقات القادمة.


لن يستطيع أحد أن يعيد مارد الذكاء لاصطناعي إلى القمقم، ولا أعتقد أن هناك من يرغب بفعل ذلك، بمن فيهم مطلقو التحذيرات والذين وقّعوا على البيان الذي نشر مؤخرا وحذر من خطر انقراض البشرية.

القصة بدأت قبل جينسن هوانغ، وقبل مبتكر برنامج “تشات جي بي تي” سام ألتمان، وقبل أيلون ماسك الذي سبق أن شارك في التوقيع على رسالة تطالب بوقف تطوير أنظمة الدردشة لمدة ستة أشهر، وقبل بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت وستيف جوبز مؤسس شركة أبل، ولن يكون بمقدور حتى الحكومات أن توقف الثورة التي بدأها الذكاء الاصطناعي وتابعها الذكاء الاصطناعي التوليدي.

نظريا، بدأ الحديث عن الذكاء الاصطناعي عام 1950 عندما نشر ألان تورينغ مقالا بعنوان “الآلات الحاسبة والذكاء”، اقترح فيه اختبارًا لتحديد ما إذا كان الحاسوب يمتلك الذكاء البشري أم لا. هذا الاختبار بات يُعرف اليوم باسم اختبار تورينغ، وهو يقوم بمقارنة إجابات الحاسوب مع إجابات إنسان على سلسلة من الأسئلة.

إذا لم يستطع القائمون على الاختبار التفريق بين إجابات الإنسان وإجابات الآلة الحاسبة، فإن الآلة تعتبر ناجحة في الاختبار، وبالتالي يمكن القول إن الآلة تمتلك ذكاء اصطناعيا.

واستبق تورينغ، الذي مات منتحرا، الأحداث بطرحه أسئلة فلسفية حول طبيعة الذكاء والوعي والإرادة لدى الآلات.

ولولا خشيتي من أن أكون مروّجا لنظرية المؤامرة، لقلت إن عمالقة التكنولوجيا يتعمدون اليوم إثارة مثل هذه المخاوف بهدف جلب المزيد من الاهتمام بالتكنولوجيا الجديدة وجني أرباح خيالية تفوق كل تصور. وهو ما تتسابق عليه الشركات العملاقة والصغيرة منذ شهور وخصصت من أجل ذلك بيانات لا حصر لها والمليارات من الدولارات.

يوم الأربعاء أعلن عن تضاعف قيمة سهم شركة إنفيديا ثلاث مرات في أقل من ثمانية أشهر، لتصل إلى تريليون دولار، متجاوزة بكثير أيّ شركة أخرى مدرجة على مؤشر الأسواق الأميركي ستاندرد أند بورز 500. وهو ما يعكس زيادة الاهتمام بهذه الطفرة التكنولوجية بعد التطورات السريعة التي رافقت طرح “تشات جي بي تي”، وبدء الجدل حول الذكاء الصناعي التوليدي، الذي يمكنه التحاور مع البشر وصياغة كل فنون الكتابة بدءا من النكات وصياغة الشعر وصولا إلى كتابة السيناريو.

الحكومات التي عجزت عن مواجهة لوبيات صناعة التبغ رغم الأضرار المثبتة والموثقة للتدخين، ورغم تحذيرات منظمة الصحة العالمية من أن عدد ضحايا التدخين قد يصل إلى 10 ملايين سنويا، لن توقف تحذيراتها ثورة الذكاء الاصطناعي اليوم.

هناك تهديدات أخرى يواجهها العالم، مثل الاحتباس الحراري وما رافقه من تلوث في البيئة وتبدلات في المناخ أفضت إلى أزمات غذائية واتساع في رقعة الفقر. أيضا هناك تحذيرات من ظهور فايروسات مجهولة لا تمكن السيطرة عليها وقد ينجم عنها موت الملايين من البشر.

عندها لن يكون الذكاء الاصطناعي مصدر تهديد للبشرية، بل سيكون الحل لمواجهة هذه التهديدات.


كان يمكن للبشرية أن تدفع الثمن غاليا لولا عالم الرياضيات البريطاني ورائد علم الكومبيوتر النظري ألان تورينغ الذي فك شفرة الألمان في الحرب العالمية الثانية. استطاع تورينغ اختراق تشفير جهاز إنيغما النازي، وذلك عن طريق نظام حَوسبي آلي يسمّى القنبلة، طوره تورينغ عن نظام بولندي سابق. وقد أسهم فك شفرة إنيغما في إنهاء الحرب العالمية الثانية، التي بدأت بهجوم ألمانيا على بولندا في أول سبتمبر – أيلول 1939 وأنقذ بذلك حياة الملايين من البشر.

تورينغ هو من ساعد على هزيمة النازية، وأنقذ حياة ما يقدر بـ14 مليونا من البشر. وحال دون استفراد الزعيم النازي أدولف هتلر بالسلاح النووي. تخيلوا ماذا يمكن أن يحصل لو تم ذلك.

لا يمكن إنكار وجود مخاطر قد تنجم عن اتساع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية، وهي مخاطر تستحق الاهتمام من قبل منظمات المجتمع المدني ومن الحكومات، ولكن ليس من بين هذه المخاطر القضاء على الجنس البشري.

مخاطر الذكاء الاصطناعي التوليدي تتعلق بالدرجة الأولى بالأمن السيبراني، وبالأمن والسلم الاجتماعي، ومثال على ذلك إلحاق “أضرارا جسيمة بالعالم”، من خلال تزوير نتائج عمليات انتخابية، أو إحداث تغييرات جذرية في سوق العمل.

وهو ما أكد عليه صانع “تشات جي بي تي” سام ألتمان أمام الكونغرس الأميركي داعيا وضع قواعد لاستخدام الذكاء الاصطناعي، وقال ألتمان إنه يخشى من خطورة الذكاء الصناعي، الذي بوسعه التوجيه لقناعة محددة أو التلاعب بمعتقدات الأفراد.

علي الصعيد الاجتماعي هناك مخاوف من أن يؤدي انتشار الذكاء الاصطناعي إلى اختفاء 80 في المئة من الوظائف حول العالم. وبالطبع هذا لو حصل دون وجود خطة بديلة مثل فرض ضريبة عدالة اجتماعية لمواجهته، سيكون كارثة على البشرية.

رغم ذلك، لا وقت ولا مكان للتراجع؛ “لا توجد طريقة لحبس هذا المارد في قنينة. هذا بمثابة انفجار على مستوى العالم”، كما قال السناتور الأميركي كوري بوكر، وهو واحد من عدد كبير من المشرعين ممن لديهم تساؤلات عن أفضل السبل لضبط الذكاء الاصطناعي.

الأجدر بنا كبشر أن نركز على الأمن الغذائي والأمن الصحي والاجتماعي، وكيف نوظف الذكاء الاصطناعي في إيجاد حلول لمثل تلك التهديدات، بدلا من الانسياق وراء خيال جامح يتحدث عن نهاية البشرية على أيدي الروبوتات.

العالم كما قال هوانغ مؤخرا أمام “نقطة تحول في عصر الحوسبة الجديد”، وتحدث رئيس شركة إنفيديا عن منصة كمبيوتر عملاق للذكاء الاصطناعي تسمى DGX GH200، قال إنها الآن “في مرحلة الإنتاج الكامل”.

وقال إن الكمبيوتر العملاق الجديد سيساعد شركات التكنولوجيا على إنشاء المزيد من المنتجات ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي التوليدي، والتي تتطلب مهام حوسبة أكثر تعقيداً.

الخبر ذكرني بحديث تم بيني وبين الدكتور هيثم الزبيدي (رئيس تحرير صحيفة العرب) في بداية التسعينات، وكان يومها طالبا بمرحلة الماجستير في الرويال أكاديمي، الجامعة العريقة في لندن، وكانت الإنترنت تحبو خطواتها الأولى، وكان امتلاك قرص صلب للتخزين بسعة جيجا بايت يعتبر ترفا، يومها قال لي إن الحاجز الوحيد بيننا وبين تحقيق إنجازات يعجز عن تصورها الخيال، هو سرعة الكومبيوتر.

مع إعلان إنفيديا عن منصة الكومبيوتر العملاق المخصصة للذكاء الاصطناعي وتأكيد شركة كوالكوم الأميركية، وهي أكبر منتج في العالم لمعالجات الهواتف الذكية، على حاجة التقنيات الجديدة لأنظمة كمبيوتر أقوى من إمكانياتها الحالية، علينا أن نتوقع تطورا مذهلا في عالم الذكاء الاصطناعي التوليدي.

وكان أليكس كاتوزيان كبير نواب رئيس كوالكوم قد استغل كلمته خلال معرض كمبيوتكس للإلكترونيات في العاصمة التايوانية تايبيه لكي يعرض حجم السوق الضخمة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في المستقبل، ليقول إن الشركة باعت حتى الآن أكثر من ملياري منتج بإمكانيات الذكاء الاصطناعي.

هل بالإمكان بعد هذا إعادة المارد إلى القمقم؟ بالتأكيد لا، كل ما يمكن أن نعمله هو أن نركز على حل مشاكل العالم بدلا من إثارة الشائعات والحديث عن نهاية العالم.

وقد يكون الذكاء الاصطناعي هو نفسه من يقدم الحلول لتلك المخاطر.