أخبار وتقارير

السبت - 18 فبراير 2023 - الساعة 11:30 م بتوقيت اليمن ،،،

يحيى سلامة


كنت في الصف الأول الثانوي عندما سألت مدرس الجغرافيا رحمة الله عليه وكان مثقفا يساريا (وتكررت مرات اعتقاله على خلفية انتماءه للحزب الشيوعي المصري المحظور وقتها ) هل الاقتصاد المصري اقتصاد رأسمالي أم اقتصاد اشتراكي، فأجابني إجابة مدهشة : أننا في مصر أخذنا من كل نظام أسوأ مافيه ثم أضفنا أسوأ مافينا وشكلنا من هذا كله نظامنا الاقتصادي .

تذكرت هذه الواقعة وأنا أتصفح كتاب (القضية الجنوبية وإشكالية الهوية).


وهذا المدخل الاقتصادي وان بدى ساخرا الا أنني أرى أنه المدخل لقراءة كتاب الدكتور عيدروس وفهم إشكالية الهوية الجنوبية اليمنية .

فقد تشكلت هوية الجنوب اليمني بروافدها المختلفة والمتعددة (ثقافية وتاريخية وشعبية ودينية ومصير مشترك ) ونمت وتطورت في مسارها التاريخي والإنساني مع إعلان جمهورية اليمن الجنوبية الديمقراطية والتي صارت فيما بعد جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية والتي تم الإعلان عنها في 30 نوفمبر 1967 والتي تبنت نظام الاقتصاد الاشتراكي الموجه على مدى ما يقرب من ربع قرن .

وهذه الهوية التي اعتمد عليها الكاتب في كتابه لاظهار الهوية الجنوبية والقضية الجنوبية في مسارها النضالي بدءا من مقاومة الاستعمار البريطاني في خمسينيات القرن الماضي ثم إعلان جمهورية اليمن الجنوبية الديمقراطية أو (الشعبية )كما سميت بعد ذلك ثم مسار الوحدة اليمنية عام 1990 وحرب عام 1994 بين شطري اليمن (الشمالي والجنوبي) وأخيرا الحراك الجنوبي وتصديه للقوي الانقلابية علي حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي عام 2015.

والكتاب في فصوله الثمانية يجيب عن سؤالين في غاية الأهمية لكل متابع أو مهتم بالشأن اليمني وهما .

اولا :لماذا فشلت الوحدة اليمنية التي تم إعلانها في 22 مايو 1990 وانتهت باجتياح الجيش الشمالي لأراضي الجنوب في عام 1994؟

ثانيا : لماذا كان تحرير الجنوب اليمني من ميليشيات الانقلابيين سريعا وحاسما أكثر منه في الشمال اليمني ؟

وبالنسبة للسؤال الأول أتفق تماما مع وجهة نظر الكاتب في أن الوحدة اليمنية لم تكن أكثر من وحدة شكلية تعبر عنها الخطب السياسية والشعارات الرنانة والأغاني الوطنية وتبادل المصافحات والعناق أمام عدسات المصورين كما حدث تماما في الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 باندفاع حماسي متأثر بشعارات القومية والوحدة والحرية كتصدي لهيمنة القوي الاستعمارية بمعسكريها الشرقي والغربي آنذاك .

واللافت أن الوحدة اليمنية جاءت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانهيار سور برلين وانتهاء الحرب الباردة بانتصار المعسكر الغربي سياسيا وايدلوجيا وهنا يجب أن تتوقف أمام الوحدة اليمنية من هذا المنظور واستخلاص الحقائق الكامنة وراء دوافع الوحدة وانهيارها .

بينما كانت دولة الجنوب اليمني دولة مؤسسات ولها نظام جمهوري يحتكم الي الدستور والقانون لتوزيع الحقوق والواجبات بين المواطنين علي اختلاف أوضاعهم الاجتماعية دون تفرقة بين الجنس أو الدين أو المكانة الاجتماعية، كانت جمهورية الشمال (الجمهورية العربية اليمنية) جمهورية شكلية لم تتخلص بعد من تأثير العشيرة والقبيلة والعائلات على شكل الحكم بدرجة جعلت في الكثير من الأحيان من قوة ونفوذ هذه العشائر والقبائل أكبر بل أحيانا حلت محل الدولة والدستور والقانون

وكانت هي أي العشيرة أوالقبيلة المرجع والحكم في النزاعات بين الأفراد أو حتي في اختيار أعضاء السلطة التنفيذية كالمحافظين والوزراء ورؤساء الوزراء وبقاءهم أو عزلهم من مناصبهم، فضلا عن النظام الاقتصادي المترهل في دولة الشمال والذي سمح للطبقات الطفيلية بامتلاك الثروة وأصبحت هذه الطبقة وكأنها دولة موازية مستقلة لدرجة أن الحكومة كانت تستأجر مقارها من هذه الطبقة وتدفع لهم الايجار في حين أن الغالبية العظمى من الشعب يرزخ تحت أعباء الفقر والحاجة .

وهذا التباين في الرؤية الاقتصادية والسياسية بين حكومة الشمال وحكومة الجنوب ونظرة كل منهما للدولة والمواطن كان العامل الحاسم في فشل الوحدة بين شطري اليمن عام 1990 لأن ببساطة هذه الوحدة لم تلبي احتياجات المواطن الجنوبي أو المواطن الشمالي على السواء، (فالرؤية العربية للسياسة والاقتصاد هي رؤية فوقية بامتياز لاتتجاوز دائرة الحكم الضيقة المحيطة بالزعيم فلان أو القائد الملهم فلان ولاتنزل الي طموحات وأمال المواطن البسيط الذي يدفع ثمن هذه الرؤية من قوته وأحيانا من حياته)

ومن هذا المنظور يمكن قراءة نجاح الوحدة الألمانية وتوحيد الألمانيتين بعد تحطم سور برلين عام 1989فمع التسليم بالهوية والتاريخ المشترك بين الألمان شرقا وغربا الا أن التباين الاقتصادي والسياسي كان ظاهرا بشدة وعلى مدى مايقرب من نصف قرن بعد تقسيم ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية بين نظام اشتراكي في الشرق الألماني ونظام رأسمالي في غربها، الا أن هذا التباين لم يعيق الوحدة ولم يخذل المواطن سواء في شرق ألمانيا أو غربها

وذلك ببساطة شديدة أن كل من النظامين رغم تباينهما كانا يضعان المواطن علي قائمة الأولويات فالاقتصاد الاشتراكي كان يتبني المواطن بالدعم والكوبونات والتعليم والعلاج المجاني الخ

كان وفي الوقت نفسه النظام الرأسمالي الغربي يتبني المواطن بشكل مغاير عن طريق إعادة توزيع الناتج المحلي من دافعي الضرائب في صورة علاج مجاني وتعليم مجاني وصرف إعانات البطالة وغيرها من الصور الاجتماعية ولذلك رحب الشعب الألماني بالوحدة لأن هذه الوحدة لن تنقص من مكتسبات المواطن شيء بل تبني عليها وتطورها وهذا هو الأمر المفقود تماما في الوحدة اليمنية ومن قبله في الوحدة المصرية السورية .

وبالنسبة للسؤال الثاني وهو لماذا كان التصدي لميليشيات الانقلاب سريعا وحاسما في الجنوب اليمني أكثر منه في الشمال .

من وجهة نظري المتواضعة أن حرب 1994 والتي انتهت بانتصار عسكري لحكومة صنعاء علي الأرض إلا أنها وفي الوقت نفسه كانت خسارة سياسية فادحة للنظام اليمني آنذاك الذي لم يستطع استغلال هذا النصر في إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تضمن بقاءه وصيرورته، بل انشغل بالحرب في صعدة مع ميليشيات الحوثي، ثم تفاجأ بالربيع العربي الذي أطاح بحكمه ونفيه ثم عودته مرة أخرى وتحالفه مع عدو الأمس (الحوثيين ) لينتهي هذا التحالف باغتياله علي يد حلفاءه مما أدي الي التمرد والانقلاب علي حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي عام 2015.

فبينما كان النظام في الشمال فاقدا للبوصلة والرؤية السياسية لترميم نفسه وستر عورته السياسية كان الأمر مختلفا في الجنوب حيث كرست حرب عام 1994 الوعي الجمعي لدي مواطني الجنوب وتأكيد هويتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية وكان هذا الوعي هو الوقود والمحرك الأساسي للتصدي لميليشيات الانقلاب في عدن وباقي محافظات الجنوب مقارنة بالوضع الملتبس والمتشابك والغامض في الحرب الدائرة بالشمال اليمني منذ عام 2015 بين قوات التحالف العربي وميليشيات الحوثيين والتي يدفع فاتورتها المواطن اليمني وحده والذي لاحول له ولا قوة لبقاءه في خانة اعراب المفعول به منذ عقود ولم تتح له الفرصة ولو ساعة ليكون في خانة الفاعل والمبادر بالفعل .

وفي الأخير يجب أن أتوجه بالتحية للدكتور عيدروس نصر ناصر على هذا الكتاب وعلى أمانته العلمية والأكاديمية في نقل الحقائق كما هي دون تهوين أو تهويل

وأحييه علي أمانته الفكرية وعدم انحيازه لفكر أو لمذهب وأنه مثال للمثقف المستنير بحق والذي لا يخجل حتى من توجيه اللوم أو بيان القصور لنظريته السياسية والاقتصادية التي يؤمن بها ولرفاقه الذين انحرف بعضهم عن المسار النضالي تحت تأثير سياسة العصا والجزرة كما هو معروف لأشيد في الأخير بموقفه اليساري وموقف اليسار اليمني عامة الفاعل على الأرض والمنشغل بقضاياه السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومراجعاته الفكرية للوصول إلى غد أفضل للجنوب اليمني

ويحسب له ابتعاده عن التعرض للدين الإسلامي ومظاهره والهجوم علي كل مايخص الدين من طقوس وعبادات وملابس ولحية وهو للأسف الشديد وبالمناسبة ماوقع في فخه بعض من مفكري اليسار المصري الذين تخلوا طواعية عن المراجعات الفكرية والسياسية واستخدمهم النظام السياسي كرأس حربة في ضرب مشروع الاسلام السياسي في حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وخلال العقد الأول من القرن الماضي، فابتعدت خطبهم وأطروحاتهم عن تلبية احتياجات المواطن العادي الذي لم يكن يرى في الاسلام السياسي أو في اللحية والنقاب والجلباب كل هذا الخطر والشر المستطير، بقدر ماكان يرزح تحت أعباء التدهور الاقتصادي واتساع الفوارق الاجتماعية بين الطبقات وترهل النظام السياسي وإصابته بالشيخوخة والعجز في أيامه الأخيرة وسنواته التي سبقت ثورة يناير 2011

ولعل مايلخص ذلك ويبين مدى إنفصال مفكري اليسار المصري عن الواقع وعن المواطن هو أن أحد أهم مفكري ومنظري اليسار والعدالة الاجتماعية على مدى أكثر من نصف قرن مات في حمام الساونا في فيلته الخاصة بعد أن قضى أكثر من 30 سنة متحدثا في أجهزة النظام الإعلامية عن خطورة الاسلام السياسي وعن فداحة اللحية والنقاب والجلباب وقراءة القرآن والصلاة في المسجد، ولم يشير في أحاديثه او كتبه للإصلاحات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية من قريب أو من بعيد، فتقاضى ثمن وقفته مع النظام

بينما يشير الكاتب الى مثقفين يساريين يمنيين دفعوا ثمن مواقفهم اما بالسجن أو المنفي أو الاعتقال أو بالتصفية الجسدية ونفس الحال ينطبق على بعض من المثقفين المصريين التنويرين بحق ودون مزايدة أو استقطاب هم أيضا دفعوا الثمن من التهميش والسجن والاعتقال والقتل والأسماء معروفة وباقية في الذاكرة المجتمعية .

الكتاب للدكتور / عيدروس نصر ناصر