منوعات

السبت - 28 يناير 2023 - الساعة 10:39 م بتوقيت اليمن ،،،

بديع صنيج


منذ اللحظات الأولى لفيلم "بيروت هولدم" (تأليف وإخراج ميشال كمون)، لا يملك المشاهد إلا أن يتعاطف مع حركة الكاميرا، والتقاطات المخرج الذكية للتفاصيل الكامنة في الأمكنة والوجوه، وللقلق المديد فيها، فلا شيء مستقر ألبتة، لا حال الناس، ولا البلد، وبالتالي لا سكينة يمكن الوصول إليها مهما كان السعي جديًا.

يقتنص كمون في فيلمه روح المدينة التي باتت الحياة فيها أشبه بلعبة قُمار لا فكاك منها، وممنوع على اللاعبين الانسحاب بإرادتهم، فهم أسرى الرِّهان دائما، الرهان على الصداقة والحب وتأمين المعيشة، وأصعب تلك الرهانات هو الرِّهان على الذات بعمق مأساتها الوجودية في مدينة باتت ضارية في علاقاتها ومتطلباتها وانكساراتها وواقعها المتأرجح دائما، حيث إن جميع شخصيات الفيلم تحقق مقولة المتنبي "على قلق كأنّ الريح تحتي".


لكن في فيلم "كمون" لا نبوءات ألبتة، إذ يُغافلك في جميع المنعطفات الدرامية، ولا يترك لك المجال للتوقع، فكل تفصيل مهم ومُفاجئ، وكل حيثية اشتغل عليها لها مكانها الأثير في جوهر ما أراد قوله، حتى الزمن استطاع أن يلعب عليه بتمرُّس، بحيث لا يُشعر المتلقي بانتقالاته وانقضاءاته إلا من خلال تأثيره على مصائر الأبطال، وزعزعة كينونتهم، وانقلابات حيواتهم المتكررة، وكأن المخرج يراهن على كل شيء دفعة واحدة، لكنه بعكس أبطاله، يعلم علم اليقين أنه سيكسب الرهان.

يحكي "بيروت هولدم" قصة الشاب الأربعيني زياد الملقب بـ"زيكو" (صالح بكري) الخارج للتو من السجن قبل انقضاء فترة حكمه، وذلك لحسن السلوك، الذي يسعى لأن يصلح أخطاء ماضيه، ويتحلل من تبعاتها، بما في ذلك موت أخيه الأصغر رامي بحادث ضمن سباق للدراجات النارية، والذي حمله والده (روجيه عساف) مسؤولية وفاته لأنه كان يقلده ويريد أن يصبح مثله، إلى عشقه لعازفة البيانو كارول (رنا علم الدين) الذي يحاول أن يعاود وصالها، لكنها رغم حبها له، ترفض الاستمرار معه، لأنها لا تثق بأنه لن يدخل السجن مرة أخرى، وأنه سيغير نمط حياته من أجلها.

ليس ذلك فقط، بل إن زيكو عالق مع أصدقائه ربيع (عصام أبو خالد) راعي الخيول النحيل ذي الشخصية الضعيفة، ولا هم له سوى تأمين معيشة بيته، لذا يرضخ بنوع من الذل لمديره القاسي (طلال الجردي)، بينما صديقه الآخر جورج (فادي أبو سمرا) فهو ميكانيكي شاطر، لكنه فاشل في زواجه من ريتا (نيكول كماتو) خاصة أنهما لم يرزقا بولد، في حين إن صديقه الثالث فادي (زياد صعيبي) يحاول التغطية على فشله الكلي بزاوجه من رشا (زينة صعب دي ميليريو).

ورغم محاولات زيكو فتح صفحة جديدة في حياته، بدعم كبير من أصدقائه، إلا أن المستنقع الذي يعيشون فيه جميعهم كان أقوى، وسعي البطل لتبديل ماضيه يُعرِّضه دائما لمواقف قاسية من كل من حوله، ليرى نفسه شيئا فشيئا منجرًّا لمعاودة المقامرة كما كانت حياته السابقة، خاصةً بعدما دخل والده المستشفى دون أن يملك المال لإخراجه منها.

هنا يُراهن على كل شيء، على عمل صديقه راعي الخيول، بعدما تعاونا في استعارة خيل أصيل وكسب المال من وراء تلقيحه للعديد من المُهرات في إسطبل آخر، وعلى حبِّه لكارول وظلمها له وعدم يقينها بأنه بات حسن السلوك، خاصةً بعدما تعرف على فتاة ليل (ريتا حايك) يُعنِّفها عشيقها، فيضربه وتصبح فيما بعد مقربة جداً منه..

لكنه في غمرة الوصال يناديها باسم كارول التي لم يتوقف للحظة عن حبها رغم صدها له، وعلى علاقته بأخيها سامي (سعيد سرحان) الذي علم أن له ضلعاً في وفاة أخيه، وأيضاً يسعى للحصول على المال من شخص مدين له به (يحيى جابر) لكن دون جدوى.

في مواجهة كل ذلك يستطيع تخليص والده من المستشفى بعد كسبه للنقود من تلقيح الخيل، ويفتتح بارًا باسم "بيروت هولدم"، لكن بعد انفضاح أمر سرقة الجواد يتعرض محله للتفجير من أحد أتباع صاحب إسطبل الخيول، الذي يقوم باستعادة الخيل الأصيلة وكسر قدم وساق ربيع..

وبعدها بوقت قليل يموت صديقه فادي مع زوجته في إحدى التفجيرات بعدما رزقا بطفل بقي حيا وتكفل جورج وزوجته بتربيته، بينما تقرر كارول متابعة حياتها في الدوحة، ويموت والده، ومع ذلك تستمر الحياة بصدودها له، ما عدا مشهد حديثه مع الطفل الرضيع عندما كاد يصحبه في نزهة، بأن الناس نوعان، إما أن يولدوا محظوظين جداً، أو سيئي الحظ، يسعون طيلة حياتهم لامتلاكه وهو منهم.

إلى جانب القصة المميزة بتفرعاتها الأفقية والعمودية، هناك الأداء التمثيلي المُبهِر، بحيث لن تصدق أن تلك الشخصيات ليست حقيقية وتعيش في بيروت بكامل أزماتها النفسية والاجتماعية والمعيشية، وزاد من ذلك، كاميرا تترصد ذاك الصدق، وتحوِّله بلقطاتها القريبة والبعيدة، باهتزازاتها ومداورتها للعتمة التي تعم مجمل المشاهد، إلى جماليات أخاذة، كل ذلك وضعنا أمام اشتغال متأنٍ على موضوعة الرِّهان الكامل في "بيروت هولدم" الذي استعار اسمه من لعبة القمار الشهيرة "تكساس هولدم" وفيها يتم الرهان على كل شيء، فإما الربح الوفير وإما الخسارة الكاملة، وهنا خسرت الشخصيات جميعها، لكننا كمشاهدين ربحنا فيلما واقعيا من الطراز الرفيع.