سلّط منع السلطات التونسية لقناة محلية من بث فيلم “محمد رسول الله” الضوء على مخاوف تتعلق بحرية التعبير في تونس وفرض القضاة لرقابة مسبقة على الإعلام.
وأصدرت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس قرارا بمنع قناة “تلفزة تي.في” الخاصة من بث الفيلم الذي كان من المقرر عرضه السبت.
وفيلم “محمد رسول الله” هو عمل إيراني للمخرج مجيد مجيدي صدر سنة 2015، وقد أثار جدلا واسعا في الأوساط الدينية، وذهب البعض إلى اعتباره “مسيئا للرسول”. ويتناول الفيلم قصة طفولة النبي منذ ولادته وحتى سن الـ13 عاما، وتبلغ مدة الفيلم 3 ساعات، وبلغت ميزانيته 40 مليون دولار، ومولته طهران جزئيا ليكون بذلك أكثر الأفلام كلفة في تاريخ السينما الإيرانية.
من جانبها قالت قناة “تلفزة تي.في” إنها لم تبث فيلم “محمد رسول الله” امتثالا لقرار النيابة العمومية.
وأضافت أن القرار الصادر عن النيابة العمومية ألزم القناة بعدم بث الفيلم، وأشارت إلى أنها استجابت لقرار النيابة رغم أنه ليس من اختصاصها. وأكدت القناة أنها تحتفظ بحقها في الطعن في القرار المذكور.
وعبر مدير القناة زهير لطيف عن استغرابه الشديد من قرار النيابة العمومية القاضي بمنع بث فيلم “محمد رسول الله” والذي “كان مبرمجا ليلة الخامس عشر من أكتوبر وهو اليوم الذي يحتفل فيه الشعب التونسي بعيد الجلاء ومغادرة آخر جندي مستعمر لتونس”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “المنع يأتي في ظل تزايد تخوف التونسيين من المس بالحريات خاصة أن الفيلم موجود على مواقع التواصل الاجتماعي وشاهده عشرات من الملايين ورشح لجائزة الأوسكار وبث في العديد من بلدان العالم”. وتابع “إن كانت بعض الجهات الدينية على غرار الأزهر قد منعت بثه فإن مفتي الجمهورية التونسية لم يقم بذلك”.
يُشار إلى أن الأزهر الشريف في مصر جدّد التأكيد في أكثر من مناسبة على أنه “لا يجب تجسيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، باعتبار أن ذلك يُنزل من مكانة الأنبياء من صفة الكمال الأخلاقي”. كما أكدت هيئة كبار العلماء بالأزهر تحريم تجسيد الأنبياء وحرمانية مشاهدته أيضا.
وسبق أن انتقد مفتي السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ بحدة فيلم “محمد رسول الله” للمخرج الإيراني مجيد مجيدي واعتبره “عدوا للإسلام”.
وغم التبريرات وآراء النقاد من مختلف الدول العربية والإسلامية، ورغم مرور 7 سنوات على إنتاج الفيلم والتركيز على خلوه من التجسيد أو المس من شخص الرسول وأنه يحاول تغيير الصورة الذهنية السيئة السائدة عن الإسلام في الغرب والتي تظهره على أنه دين العنف والإرهاب، فإن الانتقادات اللاذعة والفتاوى المُحَرِمة، ومنع تداول الفيلم عربيًا، لا تزال أبرز ما يلاقيه الفيلم.
وفي تونس، ليست هذه المرة الأولى التي يمنع فيها الفيلم من العرض، ففي 2016 وقع التخلي عن العرض المبرمج في قاعة الكوليزي حتى أن صاحب القاعة تعرض إلى تهديدات مباشرة من مجموعة مجهولة توعدت بإلحاق أضرار بالقاعة في صورة إصراره على العرض.
وتساءل مدير قناة “تلفزة تي.في”، “على أيّ أساس يتم منع بث الفيلم؟”، مشيرا إلى أنه “في أسبوع واحد تم منع بث الفيلم على قناتنا بالإضافة إلى منع بث حلقة من أحد البرامج الاستقصائية في قناة الحوار التونسي”.
وأكد لطيف أن “الجهة المخولة بمنع بث أي محتوى هي الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري وليس القضاء”.
وكانت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا) نددت بقرار قاضي التحقيق بالمكتب 35 لدى المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة الصادر في السابع من أكتوبر الجاري والمتعلق بمنع بث حلقة من برنامج “الحقائق الأربع”، الذي يتم بثه على قناة “الحوار التونسي” الخاصة، ويتمحور حول ”200 وثيقة مدلسة”.
واعتبرت الهايكا أنّ ذلك يعتبر خرقا صارخا لمبادئ حرية الصحافة، ويندرج ضمن تضييقات على حرية الإعلام والتعبير من خلال ممارسة بعض القضاة للرقابة المسبقة على مضامين إعلامية وتجاوزهم لصلاحيات الهيئة التعديلية.
وأكّدت الهيئة أنّه بعد اطلاعها وبحجة ضمان حسن سير الأبحاث والحفاظ على سرية التحقيق، فإنّها تجدّد رفضها لهذا التوسع غير المبرر في استعمال مفهوم “سرية الأبحاث” وتحويله إلى أداة للحد من دور الصحافة المحوري في كشف الحقيقة.
وأشارت الهايكا إلى أنّها أكّدت في العديد من المناسبات وخلال الدورات التكوينية على واجب احترام سير التحقيق وعدم كشف معطيات من شأنها التأثير في الأبحاث أو المس من الحياة الخاصة للأشخاص أو خرق قرينة البراءة، معتبرة أنّ ذلك لا يعني تعطيل العمل الصحافي بالكامل وتحويل سرية الأبحاث إلى تعلّة لحجب المعلومة. وذكّرت أنّ حرية الصحافة حق أساسي، وأن سرية الأبحاث استثناء لا يجب التوسع في تأويله إلى درجة المس من الحقوق الدستورية للصحافيين.
وحذّرت الهايكا من خطورة استسهال بعض القضاة اللجوء إلى الرقابة المسبقة وتحويل هذا الإجراء إلى أداة للرقابة ومما يمكن أن ينجر عن ذلك من تهديد واضح لحرية الصحافة لما فيه من ترهيب للصحافيين وتأثير على استقلالية المؤسسات الإعلامية.
ودعت وزارة العدل والمؤسسات القضائية إلى وضع حد لهذه التجاوزات. وذكرت بأن القطاع السمعي البصري يخضع لآلية التعديل التي يضبطها المرسوم عدد 116 لسنة 2011 والذي يعهد للهيئة، بصفة حصرية، مهمة مراقبة مدى تقيّد القنوات التلفزيونية والإذاعية بالقوانين، واتخاذ الإجراءات اللازمة في حال ثبوت خروقات على مستوى المضامين التي تبثها.
وأكّدت الهيئة التعديلية دعمها لكل المبادرات والمجهودات الرامية إلى تقديم مضامين إعلامية ذات جودة تمكن الإعلام التونسي من القيام بدوره في ترسيخ دولة القانون والمؤسسات ومحاربة مظاهر الفساد.
يذكر أن منع بث الفيلم أثار انقساما في أوساط التونسيين بين من عارض منع البث تحت شعار “حربة التعبير” وبين من أثنى عليه، وقال البعض إن “بث هذا النوع من الأفلام يقصد منه بث البلبلة في البلاد”.
ولا يزال التونسيون يتذكرون قضية فيلم الرسوم المتحركة الإيراني – الفرنسي “برسيبوليس” بعدما بثته قناة نسمة الخاصة في السابع من أكتوبر 2011.
ويروي فيلم “برسيبوليس” الذي أخرجته الفرنسية من أصل إيراني مرجان ساترابي طفولة فتاة إيرانية من عائلة متحررة عايشت أجواء الثورة الإسلامية الإيرانية التي اندلعت سنة 1979 وأوصلت الخميني إلى الحكم. وتضمّن الفيلم لقطة بدقيقتين لفتاة صغيرة تتحدث مع شخص وصف بأنه الله.
وتسبب عرض الفيلم في أعمال عنف قادها متشددون دينيون استهدفت القناة وصاحبها. وحاول متشددون اقتحام مقر التلفزيون في العاصمة تونس ثم هاجموا بعد خمسة أيام منزل مدير القناة نبيل القروي بالزجاجات الحارقة. وتظاهر الآلاف من التونسيين في عدد من محافظات البلاد احتجاجا على عرض الفيلم.
وقدم نبيل القروي مدير القناة حينها، تحت هذه الضغوط، اعتذارا علنيا عن بث “برسيبوليس”. وطالبت جماعات سلفية متشددة بإغلاق تلفزيون نسمة وبـ”إعدام” نبيل القروي بسبب “استهزائه بالمقدسات الإسلامية”.
ويوم التاسع من أكتوبر 2011 فتحت النيابة العمومية التونسية تحقيقا في عرض “برسيبوليس” بعد أن أقام محامون وجمعيات إسلامية ومواطنون دعاوى قضائية ضد نبيل القروي اتهموه فيها بـ”تعمد النيل من الشعائر الدينية”.
وأدين القروي بتهمة “عرض شريط أجنبي على العموم من شأنه تعكير صفو النظام العام والنيل من الأخلاق الحميدة”، حسب نص الحكم عام 2012 ثم قضت محكمة الاستئناف بتونس العاصمة نهائيا بعدم سماع الدعوى في حق القروي عام 2017.