عرب وعالم

الأحد - 16 أكتوبر 2022 - الساعة 05:32 ص بتوقيت اليمن ،،،

إبراهيم الجبين


لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يفصح فيها الكويتي هيثم الغيص الأمين العام الجديد لمنظمة أوبك، وأول خليجي يتولى هذا المنصب، عن موقف الدول النفطية العربية حيال ما تطالبها به الولايات المتحدة، حين قال إن ”أمن الطاقة له ثمن“، فبالعودة قليلاً إلى الوراء سيجد المتتبع لتصريحاته أنه جاء حاملاً رسالة واضحة عبّر عنها مبكراً.


ومنذ مطلع أغسطس الماضي والغيص يرسل برقيات تحمل المعنى ذاته، عندما قال إن “صناع السياسات والمشرعين وضعف الاستثمارات في قطاعي النفط والغاز سبب ارتفاع أسعار الطاقة، وليس أوبك“.

لوموا صُنّاع سياساتكم
طالب الغيص العالم بعدم توجيه اللوم لأوبك، فهناك أسباب أخرى بات الكل يعرفها، بعدما تسبّب نقص الاستثمار في النفط والغاز إثر هبوط الأسعار بسبب كورونا، بانخفاض كبير في الطاقة الإنتاجية الفائضة لأوبك. قال “لوموا صُنّاع السياسات والمشرعين لديكم، لأن أوبك والدول المنتجة كانت تضغط من أجل الاستثمار في النفط والغاز”.

غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير هذا العام جعل سعر خام برنت يصل إلى أعلى مستوى عند 147 دولاراً للبرميل الواحد، ما فاقم المخاوف على الإمدادات وأشعل أزمة الطاقة التي يعيشها اليوم.

صحيح أن الأسعار انخفضت لاحقاً، وسجلت أدنى مستوى لها في ستة أشهر عند أقل من 92 دولارا، لكنها ما زالت أعلى مما كانت عليه قبل الغزو، وما تزال تلعب دورها في التأثير على الواقع الاقتصادي والسياسي للعالم، والكل يعيش رعباً غير مسبوق، سواء كان مستهلكاً أو مستثمراً في كافة أنحاء العالم.

في مثل هذه الأيام السنة الماضية، كانت أسعار النفط والغاز أقل بـ10 في المئة، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية التي تحذّر من أنه يجب تعويض نقص الصادرات الروسية بزيادة الإنتاج من أماكن أخرى. وفي الوقت ذاته ارتفعت إمدادات الولايات المتحدة النفطية إلى أوروبا من 28 في المئة إلى 45 في المئة عن الفترة ذاتها.

الغيص ليس ضيفاً جديداً على أوبك، فقد شغل منصب محافظ الكويت لدى المنظمة منذ العام 2017 وحتى 2021، وترأس اللجنة الفنية المشتركة بين المنظمة والدول من خارجها، وهي اللجنة المسؤولة عن مراقبة الإنتاج ودراسة أوضاع أسواق النفط، وهو يعرف تمام المعرفة كل إشكاليات أوبك والضغوطات المفروضة عليها، من خلال عمله كرئيس للجنة التدقيق الداخلي فيها، قادماً من قطاع التسويق العالمي بمؤسسة البترول الكويتية، حيث عمل في مختلف إدارات المبيعات وترأس مكاتب المؤسسة الإقليمية في بكين ولندن وكان يشغل أيضاً منصب مدير إدارة البحوث ونائب العضو المنتدب للتسويق العالمي.

حلّ الغيص محلَّ النيجيري محمد باركيندو، الذي كان يشغل المنصب منذ العام 2016. وشهدت فترة باركيندو تخفيضاً للمنظمة بشكلٍ كبيرٍ لإنتاج النفط في العام 2020، عندما أحكم وباء كوفيد – 19 قبضته على الأسواق العالمية، قبل أن تبدأ أوبك وانطلاقاً من العام الماضي بالشراكة مع حلفائها العشر، زيادة الإنتاج تدريجياً، ما أدى إلى انخفاض الأسعار مجدداً.

ومع أن الأمين العام لأوبك لا يملك سلطاتٍ تنفيذيةً، وهو الشخصية العامة للمنظمة التي تمثل دولاً ذات مصالح مختلفة، إلا أن الغيص يبيّن أن نقص الاستثمار في قطاع النفط والغاز دفع أعضاء أوبك إلى زيادة طاقة التكرير لموازنة التراجع في أوروبا والولايات المتحدة، موضحاً أن أوبك تهدف دوماً لضمان حصول العالم على ما يكفي من النفط.

الدور العربي
وللكويت تأثير كبير في المنظمة، بالتنسيق مع شركائها من دول الخليج العربي وعلى رأسهم السعودية والإمارات، لتلعب هذه الدول دوراً بارزاً في إعادة التوازن والاستقرار إلى السوق العالمية.

يعترف الغيص بصعوبة ذلك التحدي، فالأمر سينطوي على تحديات كبيرة وصعوبات شديدة إذا لم يكن هناك استيعاب لأهمية الاستثمار، كما يقول. وكان قد وجّه تحذيراً دبلوماسياً مسبقاً حين تمنى أن يأخذ المستثمرون والمؤسسات المالية وصناع السياسات أيضاً هذه المسألة ”على محمل الجد ويضعونها في خططهم المستقبلية“. ولكن هذا لم يحصل.

لا يدرك الكثيرون مدى ارتباط النمو الاقتصادي وتراجعه بقرارات أوبك، مثلما تفعل الولايات المتحدة، وفيما تحاول الأخيرة قهر دول أوبك، دون أي مقابل تقدّمه، لا اقتصاديا ولا سياسيا، لا يخفي الغيص قلق أوبك من التباطؤ الاقتصادي الذي يغلّف الأساسيات الفعلية للسوق.
غير أن الطلب على النفط قوي في السوق الفعلية، والقلق من تباطؤ الاقتصاد الصيني ”مبالغ فيه“، حسب الغيص الذي يبدو مرتاحاً وهو يصف كيف أن هناك الكثير من الخوف، والكثير من التكهنات والقلق.
خبرته في العمل داخل الصين جعلته يبدو مطمئناً تماماً إزاء المخاوف المتداولة بشأن تباطؤ النمو في الصين، فتلك مخاوف غير متناسبة مع كون الصين ”مكاناً مذهلاً للنمو الاقتصادي“.

حديث مثل هذا يعكس الإعجاب بالنموذج الاقتصادي الصيني، لن يزعج الأميركيين وحسب، بل سوف يدفعهم بالتدريج لاعتبار أوبك منظمة معادية، كما عبّرت إدارة الرئيس جو بايدن خلال الأيام الماضية.

القلق من ركود عالمي

كان ذلك قبل قرار أوبك الأخير الذي مهّد له الغيص بالقول ”أريد أن أكون واضحا للغاية بشأن هذه المسألة، يمكننا خفض الإنتاج إذا لزم الأمر، ويمكننا كذلك زيادته عند الضرورة، كل هذا يتوقف على كيفية تطور الأمور“.

تطوّرت الأمور وقررت أوبك خفض الإنتاج بنحو مليوني برميل يوميًا لأجل ما أسمته بإحداث توازن في أسواق النفط العالمية.

تحالف أوبك الذي يضم 13 دولة عضوة في أوبك و11 من خارجه بقيادة روسيا اتخذ قراره في الخامس من أكتوبر الجاري، قرار دافع عنه وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، مبيناً أن الخفض الحقيقي للإمدادات سيكون استجابة لارتفاع أسعار الفائدة في الغرب وضعف الاقتصاد العالمي.

دافع الغيص عن قرار أوبك أيضاً، وقال إن المنظمة لا تنحاز إلى طرف مقابل آخر، وهي ليست منظمة سياسية، إنما تعمل على ضمان استمرار تدفق إمدادات النفط بصورة آمنة وسلسة.

واعتبر أن موقف أوبك ليس موجهاً من دولة ضد دولة، وليس من دولتين أو 3 ضد مجموعة دول أخرى. وشدّد على أن قرار التحالف مبني على أرقام وحقائق ووقائع من الكثير من الجهات العالمية التي تشير إلى احتمال كبير بحدوث ”ركود اقتصادي“.

وخشية الانزلاق إلى مثل هذا الركود العالمي قرر تحالف أوبك استباق الأمور، والاستفادة من تجربة أزمة كورونا. فالعالم حسب الغيص لا يستطيع انتظار الانهيار ثم يتدخل بعد فوات الأوان.

التكيّف والعدائية

تطالب أوبك بأكثر من مواقف سياسية من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، فتجميد الاستثمارات النفطية في أفريقيا وحده يعدّ مشكلة كبيرة تظهر عدم جدية واشنطن والأوروبيين في التعامل بما يضمن مصالح الأطراف جميعها، وبينما تريد من ينابيع النفط والغاز إبقاء صنابيرها متدفقة، تحرص على ألاّ تتطور تلك القطاعات في البلدان المنتجة لهما.

وفي الخليج لا يكترث الأميركيون لمصالح الدول النفطية سياسياً وأمنياً، ويسعون دون وضع تلك المصالح في الاعتبار، إلى عقد اتفاق نووي جديد مع الإيرانيين.

ويبيّن الغيص ذلك من خلال التشديد على ضرورة ضخ المزيد من الاستثمارات في صناعة النفط، سواء من حيث الإنتاج أو التكرير، مشيرًا إلى أن عدم الاستثمار يؤثر بشكل كبير في تأمين إمدادات الطاقة للعالم، فالتوقعات تشير إلى أنه يجب أن تكون هناك استثمارات في قطاع النفط بـ12 تريليون دولار، من أجل تأمين تدفقات النفط وسلسلة الإنتاج الكاملة.

هذا أيضاً لا يحصل، لأن معنى حدوثه هو تنمية مناطق ترتطم مع قرارات سياسية بإبقائها على حالها، بالمقابل تريد أوبك من الغرب أن يكون واضحاً في موقفه تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا، الذي يريد لها الاستمرار مع فرض المزيد من العقوبات على روسيا دون فتح باب للحل، وتلك العقوبات يصفها الغيص بأنها ذات معالم وآلية تطبيق غير واضحة.

وفي الوقت الذي تفصل فيه العقوبات الغربية ضد روسيا الاقتصاد الروسي تدريجياً عن العالم، يرى الغيص أن أوبك تمضي في اتجاه مختلف، حين يعبّر عن حرص المنظمة على ضمان بقاء روسيا جزءاً من اتفاق أوبك بشأن حجم إنتاج النفط بعد 2022.

ويعتبر الغيص أنه وعلى الرغم من التوقعات بأن الإجراءات العقابية الغربية التي اتخذت ستخفض إمدادات النفط الروسية بحلول نهاية العام، فمن المرجح أن تظل روسيا جزءا من أوبك .

هذا المسار يبدو جلي الوضوح في كونه يمضي مخالفاً لإرادة الولايات المتحدة، خاصة حين يتمنى الغيص تمديد الاتفاق مع روسيا والمنتجين الآخرين من خارج أوبك، معبراً عن انزعاجه من أيّ احتمال آخر ”من الصعب للغاية بالنسبة إليّ أن أتخيل أن الاتفاق لن يستمر“. فتلك ”علاقة طويلة الأمد تشمل أشكالاً أوسع وأشمل من الاتصالات والتعاون بين 23 دولة. إنها لا تتعلق فقط بتنسيق الإنتاج“.

أما التكيّف الذي يتوقعه الغيص من السوق، فرهينٌ بما سوف تتوصل إليه الإدارة الأميركية والأوروبيون من قرارات بشأن مطالب أوبك المعلنة وتلك المضمرة منها. ومن أعراض ”التكيّف“ الذي تعلّمته أوبك مسارعة الفرنسيين إلى استرضاء الجزائر عبر زيارة دولة قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أغسطس الماضي.

التلويح الأميركي الذي سبق الغزو الروسي لأوكرانيا بالتخلي عن الوقود الأحفوري، بات اليوم طي النسيان، وفي ظل حاجة أوروبا على وجه الخصوص للغاز هذا الشتاء، وفي الشتاءات القادمة، ومع بيع الولايات المتحدة لهم بأسعار مضاعفة و“خيالية“ كما عبّر الألمان، وكما عبّر الفرنسيون أيضاً، على لسان ماكرون خلال القمة الأوروبية في براغ حين قال “لا يمكننا أن ندفع سعراً أعلى 4 أضعاف مما تبيعونه لمصانعكم“، تكون أوبك قد اتخذت قراراً يشبه شد الحبل مع البيت الأبيض.

بايدن عبّر عن خيبة أمله من قرار أوبك ، وهدّد بأن “الولايات المتحدة لديها العديد من البدائل للتعامل معه، إلا أن قراراً لم يتخذ حتى الآن في هذا الشأن”. وعاد الحديث في واشنطن عن استعمال الدول الخليجية لـ”سلاح النفط“ مستحضرين قرار العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز بإيقاف ضخه إبان حرب العام 1973، وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن البيت الأبيض هدّد، عقب إصدار أوبك قرارها بدعم جهود المشرّعين الأميركيين لتخفيف سيطرة الكارتل على سوق الطاقة شديدة الأهمية للاقتصاد الأميركي.

وقال عضو لجنة مجلس الشيوخ الديمقراطي إدوارد ج. ماركي في لقاء مع قناة “سي أن أن” إنه سيعيد تقديم مشروع قانون يسمى “قانون محاسبة أوبك“ الذي يلزم الرئيس الأميركي بالضغط على الدول الأعضاء في أوبك وحلفائهم لإجراء محادثات حول إنهاء تنسيقهم في إنتاج النفط وتسعيره.

أما عضو مجلس النواب توم مالينوسكي فقد طالب الإدارة الأميركية بـ”التوقف عن التصرّف كالمهزومين” في العلاقة مع السعودية والإمارات، مشيراً إلى ضرورة “التأكيد على أن الخدمات التي نقدمها لهذه البلدان تتطلب منها مراعاة مصالحنا واهتماماتنا المشروعة“، لتأتي زيارة رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى روسيا قبل أيام وتردّ على هذا الضخ الإعلامي الذي يجري في أروقة الولايات المتحدة.

يبدو الغيص رأس الحربة المناسب لخوض هذا الصراع الحاد في هذا الوقت، وتسلّحه بمواقف صلبة من الدول المتحالفة وبمعرفته العميقة بخفايا أوبك والسوق ستجعله للأعوام الثلاثة القادمة صوتاً عربياً قوياً لضمان المصالح العربية في العالم الجديد.