كتابات وآراء


الثلاثاء - 31 يناير 2023 - الساعة 02:00 ص

كُتب بواسطة : علي الصراف - ارشيف الكاتب



التأسيس على قاعدة الكذب والجريمة ما كان بوسعه أن ينتهي إلا بحكومة لصوص ومرتكبي جرائم عنف وإرهاب وتمييز عنصري، كهذه التي يقودها بنيامين نتنياهو في إسرائيل.

“هيك مضبطة، بدها هيك ختم”. الإسرائيليون يعرفون جيدا معنى هذا القول، فعلاقتهم المحمومة مع لبنان علمتهم ماذا يقصد. فإسرائيل كهذه تستحق رئيس وزراء مثل بنيامين نتنياهو.

لقد كان يجب للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أن يتوقف قبل نحو ربع قرن. فإسرائيل في وقتها كانت ما تزال تبدو وكأنها دولة تستعين، لتبرير حقها بالوجود على أرض الآخرين، بمعايير وقواعد قانونية، لنفسها على الأقل. كانت ما تزال قوية. وقادرة على أن تقدم “تنازلات”. تلك “التنازلات” كان بوسعها أن تحمي الأكذوبة، وتُضفي “تضحيات” على الأسطورة. أسطورة “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”.

إلا أنها فشلت. سياق الوحشية والأكاذيب والجريمة هو الذي دلها على هذا الطريق الذي أوصلها إلى انتخاب شلة حرامية. أريه درعي ليس الوحيد بينهم.

لا يستطيع الفلسطينيون، برغم كل العذابات التي مروا ويمرون بها، إلا أن يحمدوا الله على هذه النتيجة. إذ ما من أحد كان بوسعه أن يقدم خدمة جليلة لفضح هذا “الكيان” أفضل من الإسرائيليين أنفسهم.

شلة الحرامية هي الممثل الرسمي الآن لـ”الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. هي التعبير الأمثل عن طبيعتها، كأكذوبة صغيرة تحوّلت إلى سبب يبعث على مشاعر القرف، بين الإسرائيليين أنفسهم، الذين اعتقدوا أنهم قادرون على إقامة دولة قانون.

أقاموها على جريمة، هذا صحيح. وهم يعرفون ذلك. إلا أنهم برروها بالقول “إن المرء لا يستطيع أن يعمل العجة من دون أن يلوّث يديه”. ولكن، هذه هي “العجة” الآن. إنها مجموعة محتالين ولصوص يقودون الدولة ويسعون إلى تفصيلها على مقاس أعمال الفساد التي لم يألفوا سواها. وهم “منتخبون” ديمقراطيا. ولو انقلبت السماء على الأرض، والأرض على السماء، فإن مختلسا مثل درعي، سيظل يفوز هو وحزبه بالعدد نفسه من المقاعد في الكنيست. لماذا؟ لأن إسرائيل هي هذه بالضبط. مجرد كيان لشلل. كيان عصابات متفرقة، تسمّي نفسها أحزابا.

انظر في الخارطة السياسية، وسترى كيف تنحل وتتفكك تلك الشلل. سترى كيف تعود لتلتئم لتكون عصابة أكبر. ثم تعود لتتفكك. انظر في التفاصيل التي تصنع الشروخ. انظر في الصفقات التي يعقدها الفاسدون مع بعضهم البعض، ولسوف ترى ما يدلك على حقيقة واحدة هي أن هذا الكيان مجرد اختراع وهمي. وهو غير قادر، بسبب طبيعته نفسها، على العيش ككيان محترم.

الملك “بيبي” كان يجب أن يكون في السجن الآن، لو كانت إسرائيل دولة فعلا. إلا أنه عاد إلى السلطة للمرة السادسة، ليثبت أنه ملك فساد، وأن إسرائيل تشبهه، وأن ما ارتكبه من أعمال يتطابق مع طبيعة كيان قام على أسس فاسدة. فكان من الطبيعي تماما أن يُنتخب، ويعود ليُنتخب، ثم يُنتخب مرة أخرى وأخرى.

هناك البعض من الإسرائيليين المحترمين، بالمعنى الفردي، يقدمون استقالاتهم الآن، مثل سفيرتهم في فرنسا وسفيرهم في كندا. ولكنّهم تأخروا كثيرا. كان من الحريّ بهم أن ينظروا إلى المسار العام الذي مضى هذا الكيان على أساسه لنحو ثلاثة أرباع القرن. لقد كان مسار عنف وأعمال قتل وحشية ومظالم تثير القشعريرة في جسد كل بشر توجد فيه بضع خلايا تجعله قادرا على أن “يحس”. ولكن حيثما مات الحس، فقد جاء الاستدراك متأخرا، وجاءت تلك الاستقالات متأخرة تماما.

لا شك أننا (نحن “العدو”) أخطأنا كثيرا. بلداننا نفسها كيانات تجريبية. لا شك أن الفلسطينيين كانوا مصيبة لأنفسهم على أنفسهم، بعجزهم عن بناء إستراتيجية وطنية ناضجة؛ بفشل فصائلهم في تقديم الدليل على أن زمرة “الأمناء العامين” قادرة على إقامة كيان محترم. إلا أن الحق يظل حقا في النهاية. أرضيته راسخة، ليس في الوجدان العام فقط، بل في الوجدان المطلق الذي يرى المسارات كلها أيضا. فما قام على جريمة، كان لا بد أن ينتهي بإدانة نفسه، حتى ولو فشل الضحايا في أن يُسعفوا أنفسهم.

البعض من الإسرائيليين المحترمين، ممن انشقوا عن القاعدة، يجرؤون ليس على مساعدة الفلسطينيين في التغلب على محنتهم مع أنفسهم، بل صاروا مدافعين عن “القضية الفلسطينية” وينتسبون لها، ليس نكرانا ليهوديتهم، أو إسرائيليتهم، بل دفاعا عنها. لقد رأوا كيف أن الباطل ينقلب على نفسه. فحاولوا الاستدراك لتقليص الضرر. صاروا يدافعون عن حق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، وعن انسحاب إسرائيل من كل شبر من الأراضي التي احتلتها بعد الخامس من يونيو عام 1967، وأن يُعطى فلسطينيو 48 حقوقا متساوية. على الأقل لكي لا تنهار إسرائيل على نفسها من الداخل، ولكي تشرع بأن تكون كيانا محترما، لا يرتكب جرائم ضد الغير، ويحترم القانون مع نفسه.

ولكن الأوان قد فات، منذ أن قتل ياسر عرفات، ومنذ أن قتل إسحق رابين. الجريمة أعلنت انتصارها النهائي في تلك الساعة. أعلنت انتصارها على “التنازلات”. وخير ما فعلت الجريمة، هو أنها ظلت تكرر نفسها، وتنتخب شلة يترأسها مخادع مثل “الملك بيبي”. حتى ظهر هذه المرة بجلاء، على أنه رئيس عصابة، وليس رئيس حكومة. عصابة تريد أن تفصل القانون على مقاسها.

المحكمة الإسرائيلية العليا، ربما تتمكن الآن من أن ترى المسار الذي سارت هي نفسها عليه، عندما كان الأمر يتعلق بشرعنة المظالم ضد الفلسطينيين. ولكن الأوان قد فات عليها أيضا. لقد أصبح وجودها نفسه موضع شك. شرعنت الجرائم ضد الفلسطينيين، فانقلبت الجريمة عليها من الباطن الإسرائيلي نفسه.

خير ما فعلت الجريمة هو أنها وصلت إلى هذا الحد. الوجدان الكلي، كان يرى أننا نخطئ، وأننا فاشلون. فساق الأمر لكي يتفرعن الظالمون أكثر، ويزدادوا غطرسة وعنفا، حتى أصبح إمّعة مثل إيتمار بن غفير “رجل دولة”. إنما ليكشف عن ماهية هذه “الدولة”.

لو قُيض لعاقلٍ يدركُ مسار التاريخ، أن ينتخب أحدا في إسرائيل، فلن ينتخب إلا هذه العصابة التي يقودها نتنياهو. هؤلاء هم الذين سوف يدمّرونها بأيديهم.

ولو قيض لعاقل أن يصنع الفشل على الضفة الأخرى، ما صنع إلا هذا الفشل الذي قاد المجتمع الإسرائيلي إلى المزيد فالمزيد من التطرف والعنف والغطرسة.

إذا أخذت الأمور بمعناها التاريخي، ومن منظار الوجدان الكلي، فكل هذا مناسب، ومفيد. إنه، برغم كل آلامه، رحمة.

في بعض أيام بيروت في الثمانينات، استخدمت إسرائيل ما أصبح يعرف بـ”القنابل الفراغية”. إنها قنابل تشفط الهواء بما يكفي لكي تنهدم البنايات الأربع من تلقاء نفسها، إذا أُلقيت القنبلة في الوسط.

نتنياهو وعصابته، هم القنبلة الفراغية التي تهدم البنايات الأربع الإسرائيلية: المحكمة العليا، الكنيست، والحكومة، ودولة القانون.

المسألة هي أن كيانا قام على الكذب والجريمة، ما كان بوسعه إلا أن يُقيم مشروعا فاشلا.

البعض من الإسرائيليين المحترمين حاولوا الاستدراك، فلم يُفلحوا. حتى فات الأوان إلى الأبد.