أخبار وتقارير

الثلاثاء - 13 مايو 2025 - الساعة 06:26 م بتوقيت اليمن ،،،

بلال غلام



كأي حافة من حواري كريتر القديمة، ولكل حافة من هذه الحوافي حكاية .. كانت حافتي حافة البنانية هي جزء من هذا النسيج المجتمعي العدني العتيق، وكانت بالنسبة لي مرتعًا من مراتع الصبا، ومسرحًا لأجمل لحظات العمر .. عشنا فيها أيامًا لا تُنسى، تشربنا من زواياها الدفء والبساطة، وكبرنا على أصوات ضحكات أهلها، ودفء قلوبهم، وعبق تاريخها .. لم أكتب هذا توثيقًا تاريخيًا، بل ومضة من ومضات الذاكرة التي أبت أن تنطفئ، ومشهدًا درامي خاطفًا من حكايات ما زالت تسكنني.

في كل مساء، وكعادة أهالي الحافة، كانت الأرصفة تمتد كأرائك شعبية، يجلس عليها الكبير والصغير، بعضهم يفترش الأرض، وآخرون يتكئون على "القعائد الخشبية" المصنوعة من الحبال، وكل منهم أمام بيته يبادل جاره أطراف الحديث، والضحكات، والذكريات.

ما كان يميّز حافة البنانية ليس فقط البيوت المتراصة على جانبي الشارع، ولا الأرصفة التي حفظت خطوات الصغار ووقع أقدام الكبار، بل كانت الروح التي تسكن أهلها، تلك الروح التي جعلت من كل بيت بيتًا لنا، ومن كل جارٍ أهل لنا .. كنا نعيش كعائلة واحدة، لا تفصلنا لأبواب الخشبية، بل تجمعنا قلوب مفتوحة على المحبة .. إذا مرض أحدهم، هرعت له الحافة كلها، وإذا عم الفرح بيتاً، عمّت الفرحة الحارة كلها .. أبو حسن يعرف ماذا يحب جاره من الحلوى، والسيستر زينب لا تمر صباحًا دون أن تلوّح بابتسامة لجيرانها، وجدة صالحة كانت توزع "الفوفل الملبّس" على أطفال الحافة وكأنهم أحفادها جميعًا.

كانت البيوت تتبادل الأطباق، قبل أن تبرد، وكان صوت الراديو في بيت يشترك فيه الجيران عن بُعد ويستمعون له، وكانت المقاهي الشعبية في الحافة، هي المجالس الحقيقية حيث تذوب الفوارق، وتتشكل الحكايات .. الأطفال يلعبون حتى يتعبهم التعب، والنساء يتسامرن عند أبواب البيوت، والرجال يعودون من أعمالهم ليجدوا شارعًا ينتظرهم بحنانه ودفئه.

ومن السكان الذين كانوا يسكنون هذه الحافة العتيقة:

من بداية الشارع، في عمارة "جلستان"، عاش المرحوم عبدالسلام فريد، يرحمه الله، وبجواره بيت صديقنا محمد بازرعة، وبعض بيوت آل الخوجة، ويسكن قُبالتهم بيت أمين عقبة، وبيت باصمد، ويجاورهم المحامي المعروف الشيخ طارق العدني، وعلى الجهة الأخرى، عمارة كبيرة سكنها كل من أبو شواف، زكريا، وشوقي، وفي الدور الأول بيت أبو محمد ثابت، رحمه الله، وتحتهم بيت أبو مازن، وبجوارهم محل العم حسن، المعروف ببيع "التمبل", ومقابله مسجد العسقلاني الشهير.

بخطوتين فقط من هناك، كان يقع محل النامس، صاحب "البيمه"، وإلى جانبه منزل واسع لأبو حسن، وأبنائه حسين وكمال، الذي كان يعمل في إدارة المياه، وعلى الجهة المقابلة بيت آل الشقاع، وبجانبهم بيت بازرعة أبو جلال.

نتقدم قليلاً فنصل إلى بيت شكيب طمبش، الذي كان يقع فوق مقر لجان الدفاع الشعبي، وبعد فترة انتقل بيت الطمبش إلى حافة حسين، وسكن مكانهم العم جميل دنكلي، رحمه الله .. أمامه كان يسكن أهل بيت الماستر حسن علي، وبجوارهم في الطابق الأرضي معمل مطبعة "الحظ"، ثم بيت العم أبو أنيس، يرحمه الله.

وفي الطابق الأول سكنت "السيستر زينب لالجي" أم خالد، التي عُرفت باسم "الميترن" كبيرة الممرضات، وبجانبهم بيت العم ثابت، والد علي ومحمد وخالد، وتحتهم سكنت الجدة صالحة، بائعة "الفوفل الملبّس"، رحمها الله .. على نفس الخط كان منزل العم غازي بازرعة وأولاده، وكان لديهم سائق معروف باسم العم سعيد، وأمامهم عمارة آل بازرعة، أبو أحمد، عامر، ومحمد.

على امتداد الرصيف كانت هناك مجموعة من البيوت الصغيرة من نوع القاعي أو "أبو دور" – مخزن وداره، سكنتها عائلات من الجالية البنانية، منهم بيت بابو ناجار، بيت متكر، بيت برديب، شوريش، وكانتي، وبناريا المعروفة ببيت الدوابية .. وبعد رحيلهم إلى بريطانيا، سكنها آل السيقاني ومختار. بجوارهم بيت الحجة شفيقة أم محمد، رحمة الله عليها، وكان جيرانهم المهندس يحيى الشعيبي، والعم دنكلي الحمال، وأحمد شارلي، والعم هاشم بائع "الشربيت"، والسيد الذي كان يعمل في السوق الحرة.

بجوارهم كان بيت بهارت، وأخوه كيرتي، الذي كان يعمل في سينما بلقيس، وتلاصق بيتهم مع استوديو المكلا الخاص ببابو ناجار، ومعبد البنانية الذي سكنه جينتلال وأولاده.

في المقابل، عمارة يسكنها نخبة من أهل الحافة الطيبين ومنهم, الأستاذ فيصل عبده علي، العم باجودة صاحب التاكسي الأصفر الشهير، بيت باقعر، بيت باحشوان، وبيت العم غلام أبو عادل .. وكانت هناك شقة يستخدمها بعض التجار البنانية الصغار كاستراحة لهم، وتحت العمارة تقع مطبعة "الحظ"، وبجوارها بيت العم عبده سعيد أبو خالد ووضاح، رحمه الله عليه.

ما هذه غير نبذة موجزة لمن سكن في هذه الحافة، لأن هناك العديد من الشخصيات والبيوت التي سكنتها، وإن شاء الله سوف نذكرهم تباعاً في مقالات أخرى .. هكذا كانت حافة البنانية، ببساطتها، وناسها، ودفء تفاصيلها الصغيرة التي لا تغيب عن البال مهما طال الزمن .. لم يكن مجرد شارع أو مجموعة بيوت، بل كانت نسيجًا حيًّا من العلاقات والمواقف والمشاعر الصادقة، حكاية متكاملة من الحب والرفقة والتكاتف .. في كل زاوية منها ذكرى، وفي كل وجه قصة، وفي كل صباح كانت الأرواح تتصافح قبل الأيادي.

نحن أبناء ذلك الزمن الجميل، حين كان الجار يعرف أحوال جاره قبل أهله، وكان للبساطة طعم، وللضحكة عمق، وللجيرة معنى لا يُشترى .. نكتب هذه اللمحات لا لنستعرض الماضي، بل لنُمسك ببعضه قبل أن يتسرب من بين أصابع الزمن، نكتب لنحفظ الذاكرة، ولنقول لمن يأتي بعدنا:

"هنا كانت الحياة، وهكذا كنا نعيش .. وهكذا كنا نحب."

بلال غلام حسين
١٣ مايو ٢٠٢٥م