منوعات

الإثنين - 22 ديسمبر 2025 - الساعة 12:05 م بتوقيت اليمن ،،،

وكالات


في اليمن الذي أنهكته الحروب والصراعات، ما يزال للفرح نافذة صغيرة، لا تُفتح إلا حين يحضر، ولا تكتمل المناسبات من دونه. إنه زهر الفل، بعبيره الهادئ الجذاب وبياضه الناصع الذي يشبه نقاء الأرواح المتعبة، وتوقها الدائم لحياة أقل قسوة وأكثر سلامًا. وسط الركام والقلق اليومي، يطل الفل كرسالة أمل صامتة، تؤكد أن الجمال لا يموت حتى في أقسى الظروف.

من القرى البسيطة إلى المدن الكبيرة، ومن البيوت المتواضعة إلى قاعات الأفراح والمناسبات المختلفة، يواصل الفل حضوره في تفاصيل الحياة اليمنية، ليغدو جزءًا أصيلًا من الثقافة الشعبية وطقوس المجتمع التي تناقلتها الأجيال. فهو ليس مجرد زهرة للزينة، بل عنصر وجداني يتجاوز شكله ليعبر عن الفرح، والاحتفاء، والكرم، وحسن الاستقبال.

ولم يتوقف حضور الفل عند حدود الطقوس الاجتماعية، بل نال مكانة خاصة في الشعر والغناء، وتغنى به الأدباء والمطربون حتى صار رمزًا للجمال والبهجة، وجزءًا مهمًا من الذاكرة الثقافية لليمنيين. فكثيرًا ما اقترن ذكره بالحب والصفاء، وأصبح استعارة شعرية للجمال الخالص الذي لا تشوبه شوائب.

بأشكال وهيئات متعددة، يصل الفل إلى قاعات الأفراح والمناسبات. فقد يكون زهرةً مفردة تُهدى، أو عطرًا مستخلصًا من عبيره، وفي معظم الحالات يظهر على هيئة عقود وأساور مصنوعة يدويًا من زهر الفل، وهو تقليد عريق يجمع بين دقة الزراعة وفن الحياكة اليدوية التي تتطلب مهارة وصبرًا وخبرة طويلة.

وعادة ما يكون الفل حاضرًا بقوة في الأعراس، غير أن استخدامه ارتبط بطقوس خاصة في المناطق الساحلية. ففي هذه المناطق، تُكسى العروس بعقود الفل، وتبدو جاذبة للأنظار بحلتها البيضاء المطعّمة بالورد الأحمر. كما تتسابق النساء في حفلات الأعراس لاقتناء عقود الفل، التي تُعد مادة أساسية في الزينة، فتُنظم عقودًا تتدلى من الجيد إلى أسفل الصدر، أو تُوضع على الرأس في تشكيلات جمالية نادرة، أو تُنثر على الملابس وأجزاء مختلفة من الجسد.

وفي حفلات الأعراس، تحرص الكثير من الأسر على توفير كميات كبيرة من الفل للعروس، وتتولى “المفللة” – وهي المرأة المختصة بتزيين العروس – جمع ونظم عقود الفل مع نباتات عطرية أخرى، لتشكّل ما يشبه فستانًا عطريًا يغطي العروس من الرأس حتى القدمين. ولا يختلف الحال مع العريس، الذي يحظى بدوره بكميات وفيرة من الفل تُقدّم كهدايا من الأقارب والمحبين، فتتحول الحفلة بأكملها إلى احتفال أبيض برائحة عطرية نادرة، حيث يُوزّع الفل على الحاضرين، ويُفرش في الأرضيات وعلى منصات العرس.

وتبدأ قصة الفل مع لحظة القطف في الصباح الباكر، حين يختار المزارعون البراعم الممتلئة قبل تفتحها، لضمان أعلى تركيز عطري. ثم تُجمع بعناية فائقة وتُنسج بخيوط دقيقة، لتتحول إلى قلائد وأساور تحافظ على شكل الزهرة ورائحتها لأطول وقت ممكن. وتتزين بها الأعناق والمعاصم، وتضعها النساء تيجانًا فوق شعورهن في حفلات الزفاف، كما تُعلق على جدران المنازل وواجهات السيارات، لتصبح عنوانًا للفرح وزينة للأماكن.

في محافظة لحج، جنوبي اليمن، يواصل العديد من المواطنين بيع الفل، في محاولة لإضفاء بعد جمالي على واقع صعب، واتخاذه في الوقت ذاته وسيلة عيش لكثير من الأسر. سعيد قائد علي حسن، الذي يبيع الفل في سوق مدينة الحوطة عاصمة المحافظة، يقول إن الإقبال على شراء الفل يزداد بشكل لافت مع اقتراب مواسم الأعراس والخطوبة، وكذلك حفلات التخرج من الجامعات. ويشير إلى أن الناس يحرصون على اقتنائه للتعبير عن الفرح، وأن بعض الأسر لا تستغني عنه مهما اشتدت الظروف.

بدوره، يوضح علي عبدالله سالم، أحد باعة الفل في سوق الحوطة، أن موسم الفل يبدأ في فصل الصيف، ويزداد الطلب عليه مع ارتفاع درجات الحرارة، بينما يقل بيعه في الشتاء بسبب انخفاض الإنتاج وقلة الإقبال، لكنه “يظل حاضرًا في المناسبات رغم اختلاف المواسم”.

وفي الثقافة اليمنية، بات الفل جزءًا من الحياة اليومية، حتى دخل في التحايا المتداولة بين الناس، مثل عبارة “صباح الفل”، في دلالة على مكانته الرمزية. الكاتب والأديب اليمني عادل يحيى إبراهيم يبين أن أهالي محافظة لحج يشترون الفل حبًا وشغفًا بهذه الشجرة الجميلة ذات الرائحة الزكية، مؤكدًا أنه حاضر في كل مناسبة فرح، من حفلات الزواج والخطوبة إلى استقبال الضيوف.

ويرى إبراهيم أن الفل لم يعد مجرد نبات للزينة، بل تحول إلى رمز ثقافي مرتبط بوجدان الناس وذاكرتهم الاجتماعية، ويعكس عمق ارتباط الإنسان ببيئته وعاداته الأصيلة. ويعود تاريخ زراعة الفل في اليمن إلى نحو قرن من الزمن، إذ تشير دراسات تاريخية إلى أنه جُلب من الهند في ثلاثينات القرن العشرين على يد أمير لحج آنذاك أحمد فضل القمندان (1884–1943)، ليصبح مع مرور الوقت زهرة اليمنيين المفضلة، وعلامة فرح لا تغيب.