كتابات وآراء


السبت - 05 مارس 2022 - الساعة 12:56 ص

كُتب بواسطة : علي الصراف - ارشيف الكاتب


اكتشاف المكانة الاستراتيجية للشرق الأوسط ليس جديدا على الولايات المتحدة. إنه اكتشاف سبق حتى اللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز آل سعود بالرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عام 1945، سوى أن الرئيس جو بايدن ظل يحاول أن يهرب من هذا الاكتشاف، قبل أن يجد أن حساباته خطأ بعد فوات الأوان.

دول الخليج على أشد اليقين الآن بأنها لم تعد قادرة على الثقة بالولايات المتحدة. فحتى ولو كانت ما تزال تعتبرها حليفا استراتيجيا، إلا أنها لا تستطيع أن تضع أحمال أمنها ومصالحها على كتف التحالف مع واشنطن. ليس عليها وحدها على الأقل.

الرئيس بايدن لم يؤثر الهرب من المنطقة خوفا من المواجهة مع ميليشيات إيران في العراق، بل أنه وضع العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران نصب عينيه، بكل ما يعنيه ذلك من رفع للعقوبات، وإعادة تمويل آلة الحرب الإيرانية.

وظلت إدارته تتردد في إعادة تصنيف جماعة الحوثي كتنظيم إرهابي، حتى تولت الإمارات رئاسة مجلس الأمن الدولي ونجحت في جمع التأييد لذلك التصنيف، الذي أقر حرمان هذه الجماعة من الأسلحة والدعم المادي الذي تتلقاه من إيران وحزب الله في لبنان.

كما لم يمض شهر واحد فقط عندما أوفد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مستشاريه إلى السعودية والإمارات ليقدم حرصه على حمل جرائم الحوثيين وأعمالهم الإرهابية على محمل المساواة مع جهد الدولتين لدعم الشرعية في اليمن.

لم تثبت الولايات المتحدة أنها صديق تجدر الثقة به عندما لم تتخذ الموقف المناسب من اعتداءات إيران على خطوط الملاحة في الخليج، ولا عندما هاجمت منشآت أرامكو في العام 2019.

أبعد من ذلك، فإن أحدا في الولايات المتحدة لا يستطيع أن ينكر أن العلاقات بين طهران وواشنطن لم تنقطع منذ احتلال العراق، وأن التنسيق لتقاسم المصالح بينهما ظل قائما على طول الخط. ومثلما رعت الولايات المتحدة سلطة الميليشيات الإيرانية في بغداد، فقد ظلت تغطي على فسادها وجرائمها بل وتشارك بتلك الجرائم أيضا.

الشراكة الإيرانية – الأميركية، برغم كل مظاهر العداء بين الطرفين على مدى عقدين من الزمن، ظلت هي العامل الحاسم في تقدير حدود الموقف الأميركي من أزمات المنطقة.

فلماذا يتعين على دول الخليج أن تتعامل مع الولايات المتحدة كحليف موثوق؟ وكيف يمكن لها أن تراهن على موقف منخور بالخداع والأضاليل كان هو الذي سمح لواشنطن بخوض المفاوضات سرا مع إيران قبل توقيع الاتفاق النووي في العام 2015.

الآن، ومع اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ومع الحاجة الأميركية الطارئة إلى فرض العزلة الاقتصادية على موسكو، ومن ذلك وقف اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، عادت الإدارة الأميركية لتكتشف المكانة والدور الاستراتيجيين لدول المنطقة، ليس بوصفها المورد الأكبر للنفط والغاز فحسب، بل لأنها يمكن أن تقرر ما إذا كان يمكن لحرب العقوبات ضد روسيا أن تنجح في خنق اقتصادها ودفعه إلى الانهيار.

تريد واشنطن أن تتورط دول المنطقة في الحرب ضد روسيا اقتصاديا ودبلوماسيا، بينما لا تريد أن تتورط مع دول المنطقة في مواجهة السياسات الإيرانية المزعزعة للاستقرار.

التنازلات التي ظل المفاوضون الأميركيون يقدمونها لإيران خلال كل جولات محادثات فيينا للعودة إلى الاتفاق النووي كفلت تقديم الدليل تلو الدليل على أن تفاهمات الشراكة السرية مع إيران هي أكثر أهمية بالنسبة إلى واشنطن من التزاماتها الاستراتيجية حيال دول المنطقة الأخرى.

القادة الخليجيون، برغم كل ما توفر لهم من أدلة على التواطؤ الأميركي مع إيران، لم يتنكروا للتحالف مع الولايات المتحدة، وظلوا على حرصهم المعهود على رعاية مصالحها. سوى أنهم كفوا عن وضع البيض في سلة واحدة.

دولة الخليج يحق لها أن تنظر في مصالحها وخياراتها الاستراتيجية بمنظار يكفل لها حفظ أمنها واستقرارها ويوفر لها القدرة على خوض التحولات المطلوبة لضمان تنمية مستدامة أقل اعتمادا على النفط.

هذه المنطقة تبدو اليوم كما لو أنها “سرة” التوازنات الاقتصادية الدولية. وهو وضع يجبرها على أن تتصرف بحذر وتأن حيال التقلبات بين مختلف القوى الدولية.

سياسة “تصفير المشاكل” الإماراتية التي أصبحت سياسة تتبناها معظم دول الإقليم، إنما تعني تصفيرا حقيقيا للمشاكل مع الجميع. القريب مثل تركيا وإيران وإسرائيل، والبعيد مثل روسيا والصين على حد سواء.

ومن غير المرجح أن يتمكن الرئيس بايدن بخططه الجديدة في مواجهة روسيا أن يدفع دول الخليج إلى تغيير وجهة سفنها. المسألة بالنسبة إلى هذه الدول أبعد من مجرد النأي بالنفس عن كل النزاعات. كما أنها أبعد من مجرد تراجع مستويات الثقة بالتزامات الولايات المتحدة الأمنية. إنها مسألة إعادة ترتيب خارطة المصالح على نحو يوفر لها القدرة على بناء اقتصادات أمتن.

النفط حتى وإن بقي سلعة الطاقة الرئيسية لخمسين عاما مقبلة، فإنه ليس كافيا لتوفير الضمانات المطلوبة ما لم يتم توظيف عائداته لبناء قواعد اقتصاد جديدة حديثة.

والخمسون عاما وقت قصير للغاية. وهو لا يسمح بتضييعه في نزاعات جديدة، لا إقليمية ولا دولية.

روسيا والصين قد تكونان خصمين لدودين بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها، ولكنهما تظلان قوتين عظميين، والروابط التجارية معهما تكتسب أهمية كبرى ومتزايدة لأمن دول المنطقة الاقتصادي، وذلك بمقدار مماثل للروابط مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول العالم الأخرى.

لا شيء في ذلك يتصل بالسياسات ذات الطابع النقدي، العنيفة أحيانا، ضد دول المنطقة، تلك التي تتخذ من قضايا حقوق الإنسان تعلة مبتذلة لخدمة أغراض أخرى.

هذه السياسات تترك أثرا، إلا أن مشاغل دول الخليج أبعد منها، وهي ظلت تحرص على عدم الأخذ بها كمعيار لتحديد مستوى التقارب أو التباعد مع الناقدين لا بالزيادة ولا بالنقصان، لأنها هي نفسها لم تعد تحمل الثقل نفسه.

يمكن للولايات المتحدة أن تشبع من توجيه الانتقادات في هذا الباب. العقود والاتفاقات لن تنقص ولن تزيد. سياسات رد الفعل انتهت. وانتهت معها تأثيرات الضغوط التي تعلن شيئا وتقصد آخر.

إذا شاءت إدارة الرئيس بايدن أن تعود لتكتشف مصالحها مع دول المنطقة، فالوقت قد حان للقبول بتحالف بلا رهانات مزيفة ولا أضاليل.